خارج السطر
درس غريب فى الخلود
السؤال: مَن هو أشهر حاكم مصرى فى العالم؟
الإجابة ببساطة وإجماع: توت عنخ آمون.
اكتب اسمه على مُحرك البحث العبقرى «جوجل» ستحصل على أكثر من سبعة ملايين نتيجة. تحدث إلى أى أوروبى عن الحضارة المصرية القديمة ليطل توت ركنا أساسيا فى السياق. ثم انظر بفخر حقيقى إلى انجاز الدولة الأخير فى المتحف الكبير، لتجد توت هو الفرعون الأول الأكثر حضوراً.
تخلد اسم توت عنخ آمون رغما عنه. لم يفعل الرجل شيئاً ليخلُد. لم يحُز مجداً عظيماً بين ملوك الحضارة المصرية القديمة. لا هو رمسيس الثانى الذى حكم مصر 67 عاما وحقق انتصارات كبرى، ولا هو أحمس الذى أنهى احتلال الهكسوس بعد احتلال لأكثر من قرن. وليس هو تحتمس الثالث الذى انتصر على الأعداء خارج أرضه بعربات حربية جديدة. وبالطبع لا هو إخناتون الذى دعا إلى توحيد الآلهة فى إله واحد رمز له بقرص الشمس آتون.
كان ذكر توت فى التاريخ باهتا، أعماله غير فعالة، وزمنه زمن إضطرابات وفوضى، وهو نفسه لم يعش طويلا إذ تولى الحكم طفلا فى العاشرة من عمره، ومات فى التاسعة عشر.
لكن الدرس المُهم أن لعبة الخلود لا يصنعها الإنسان نفسه. ثمة رواية شهيرة باسم «الخلود» كتبها أديب تشيكى عظيم هو ميلان كونديرا تخلص إلى أن الخلود لصيق بالموت، وهو ما يعنى أن الإنسان يستطيع أن يضع حداً لحياته لكنه لا يستطيع أن يضع حدا لخلوده. فخلود الإنسان ليس من صنعه، مهما حاول.
الأمر قدرى بحث، والسبب فى خلود اسم توت عنخ آمون هو أن مقبرته تكاد تكون الوحيدة التى أفلتت من اللصوص لتحتل بذلك المركز الأول بين المقابر الفرعونية فى عدد القطع والمقتنيات إذ ضمت 358 قطعة.
حكى هوارد كارتر مكتشف المقبرة فى مذكراته أنه فى يوم 4 نوفمبر سنة 1922 كان يعمل فى البر الغربى بالأقصرعندما لاحظ وجود قبو غريب عند مدخل مقبرة رمسيس السادس، وهنا توقف وافترض أن هناك مقبرة مخفية أسفلها، فأمر عماله المصريين بمواصلة الحفر حتى تمكن فى 16 فبراير سنة 1923 من الوصول إلى المقبرة بكامل كنوزها. وطبقا لروايته، كانت قدمه أول قدم تطأ غرفة دفن الفرعون الشاب منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ووجد فيها تابوت خشبى كبير عليه نقوش مطعمة بالذهب، فرفعه ليجد صندوقاً آخرا داخله حتى وصل إلى الصندوق الحجرى المنحوت على شكل تمثال لتوت، وداخله تابوت ذهبى يحتوى على المومياء الملفوفة بكفن مهترىء. حاول كارتر فصل الكفن عن المومياء لكنه فشل، فاضطر إلى تقطيعه ليجد أمامه جسدا ممددا بطول 170 سم بكامل هيئته الرسمية.
صورت المقبرة، وُدعيت الصحف العالمية، وذاع النبأ، فالتفت العالم كله، وتحول اسم توت عنخ آمون إلى أسطورة عالمية تكاد تكون رمزا للحضارة المصرية القديمة، يقارب رمزية الأهرامات وأبى الهول.
ومع الوقت صار توت ولعاً أركيولوجيا على مستوى العالم، إذ سعى علماء كثر إلى استقراء كيفية وفاته من خلال عملية تشريح أظهرت وجود فتحة فى الجمجمة، استدل بها البعض على تعرض الفرعون للاغتيال بالضرب على رأسه ما يفسر وفاته مبكراً. وفى عام 2005 عرض الدكتور زاهى حواس مومياء الفرعون على أجهزة الأشعة الحديثة ليخرج بنظرية مضادة تستبعد اغتيال الفرعون، وتؤكد أن الفتحة الموجودة فى الجمجمة هى فتحة اعتيادية لصب مواد التحنيط، وخلص إلى أن توت كان مصابا بمرض نادر منذ الطفولة جعله قعيدا.
ذاع الكلام وتتابع الولع وصار توت أشهر حاكم مصرى فى العالم، لكن المُهم فى الحكاية أن الرجل لم يصنع خلوده، وإنما خلدته الأقدار. وهذا درس لكل طالب خلود.
والله أعلم