بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

السودان.. معركة النفوذ على بوابة الجنوب

لم يعد السودان مجرّد أزمة داخلية بين جيشٍ نظامي وفصيلٍ متمرّد، بل تحوّل إلى ساحة صراع إقليمي ودولي تتقاطع فيها مصالح متشابكة. فحين اندلع النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تمددت جذوره سريعا خارج حدود الخرطوم؛ تقارير متعددة أكدت أن الإمارات ضخت تمويلاً واسعا للفصيل المتمرّد عبر شبكات تجارة الذهب وشركات واجهة مقرّها دبي، لتتحول الحرب إلى وسيلة لبسط نفوذ اقتصادي وعسكري على البحر الأحمر وممراته الحيوية، في مسعى لإعادة رسم موازين القوة في الإقليم.
في المقابل، تميل السعودية إلى مسار مغاير يقوم على دعم مؤسسات الدولة السودانية لا الفصائل، إدراكا ًمنها أن انفجار السودان يهدد أمن البحر الأحمر وخطوط التجارة العالمية. 
هذا التباين الخليجي يعكس صراعا ًمكتوما بين مشروعين: أحدهما يستند إلى القوة الاقتصادية وشبكات النفوذ غير الرسمية، والآخر يفضّل الاستقرار المؤسسي وإن كان بطيئا ً .
أما مصر، فهي في قلب المعادلة، لأنها الدولة الوحيدة التي ترتبط بالسودان بحدودٍ ممتدة وتاريخٍ مشترك ومصير مائي واحد، وانهيار السودان بالنسبة لها ليس حدثا بعيدا، بل خطر مباشر على أمنها القومي، إذ يعني حدودا ً رخوة، وتهريبًا للسلاح، وتدفّقًا بشريًا متزايدًا. ولهذا تتعامل القاهرة بسياسة مزدوجة تجمع بين التحصين العسكري والاستخباراتي على حدودها الجنوبية، والتحرك الدبلوماسي المتزن لتقريب وجهات النظر ودعم الدولة الوطنية السودانية.
على المستوى الدولي، تبدو روسيا والصين حاضرتين في المشهد بطرق مختلفة؛ موسكو تسعى لترسيخ موطئ قدم دائم على البحر الأحمر من خلال قاعدة بحرية في بورتسودان، وتستخدم علاقتها مع الطرفين للحفاظ على نفوذها المتنامي في إفريقيا ومنافسة الغرب. 
أما بكين فتركز على حماية استثماراتها في النفط والبنية التحتية، متمسكة بمبدأ عدم التدخل المباشر، لكنها تراقب عن كثب ما يجري خوفا من أن تتحول الفوضى إلى تهديد لطريق تجارتها الإفريقي. 
وهكذا صار السودان حلقة ضمن صراع أوسع على النفوذ في القارة بين الشرق والغرب، بينما يدفع الشعب السوداني وحده الثمن من أمنه ومعيشته واستقراره.
وتزداد خطورة المشهد حين ندرك أن تداعياته تمتد مباشرة إلى الداخل المصري؛ فغياب الدولة السودانية القوية يعني فتح الحدود أمام المهربين والجماعات المسلحة، وخلق فراغ أمني على البحر الأحمر، وتعقيد ملف مياه النيل مع إثيوبيا، لذلك تفضّل القاهرة نهج “الاحتواء الذكي” لا التدخل العسكري؛ فالتورط المباشر في حرب طويلة سيستنزفها ويقلب الرأي العام، بينما الضغط السياسي والاقتصادي، وتجفيف مصادر تمويل الفصائل، ودعم مبادرات السلام، هي أدوات أكثر فاعلية وأقل كلفة في آن واحد.
وفي هذا الصدد لا يمكننا تجاهل البعد الإسرائيلي غير المعلن في خلفية المشهد، إذ تتقاطع مصالح تل أبيب مع بعض القوى التي ترى في إضعاف المثلث (مصر – السودان – إثيوبيا) مكسبا استراتيجيا يوسع حضورها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ورغم غياب الأدلة القاطعة على تدخل مباشر، إلا أن التنسيق الاقتصادي والأمني بين إسرائيل والإمارات يمنح الأولى نفاذا غير مباشر إلى جنوب مصر وحديقتها الخلفية .. وهو ما يفرض على القاهرة يقظة دائمة وإدارة دقيقة للملف بما يحفظ توازن الردع دون إشعال مواجهة مفتوحة.
أما المستقبل، فهو في الحقيقة ليس مبشرا على المدى القريب.؛ فالحرب مرشحة للاستمرار، والحل السياسي ما زال رهينة توازن الضعف بين المتقاتلين وضغط القوى الخارجية. 
السودان يتجه تدريجيا نحو نموذج “الدولة الممزقة” التي تتعايش فيها السلطة المركزية مع كيانات شبه مستقلة، في مشهد يشبه ليبيا بعد 2011. لكن في كل أزمة تكمن فرصة، ومصر تستطيع إن أحسنت التحرك أن تكون طرفا في بناء السودان الجديد، عبر قيادة تحرك عربي إفريقي مشترك لإعادة الإعمار مقابل التزام الأطراف بوحدة الأرض والسلاح.
في النهاية؛ لا يدور الصراع في السودان حول من يحكم الخرطوم فقط، بل حول من يمتلك بوابة إفريقيا الشرقية ومفتاح البحر الأحمر. القوى الكبرى تتصارع على الذهب والموانئ والممرات، أما مصر فتصارع من أجل أمنها ووجودها. 
إن إنقاذ السودان من التمزق ليس ترفا ً دبلوماسياً، بل واجب استراتيجي لحماية التوازن العربي ومصالح الأمة من التآكل جنوب النيل.