بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

قطوف

كيف قالها ديستويفسكي؟

بوابة الوفد الإلكترونية

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

"سمية عبدالمنعم"

كيف تُقال جملة: "هل تقبلين الزواج مني؟
أو كما تُكتب بالإنجليزية: Will you marry me?
وبالروسية: Ты выйдешь за меня замуж?

عبارة يعرفها الجميع، لكني كثيرًا ما تساءلت:
كيف يقولها المبدع لمحبوبته؟
بحثت طويلًا عن إجابة، فكانت أجمل القصص التي وجدتها هي قصة الكاتب العظيم فيودور ديستويفسكي، أحد أعظم أدباء الإنسانية في كل العصور.

 

ديستويفسكي وآنا غريغوريفنا

هل تصدق أن ديستويفسكي كان يرهن أثاث بيته ليؤمّن طعام يومه؟
تلك التفاصيل ترويها زوجته آنا غريغوريفنا في كتابها «ديستويفسكي في مذكرات زوجته» (ترجمة: هاشم حمادي).
تصف آنا بدقة انفعالات فيودور الإنسان والكاتب، طقوسه في الكتابة، معاناته منذ الطفولة، وصراعه لنشر أعماله.

من أروع ما ورد في المذكرات:

"لن تتخيل أبدًا أنه كان يكتب وقت وفاة ابنته ليؤمّن لهما قوت يومهما."
"ولن تصدق أنه أصيب بالبرد الشديد أكثر من مرة، لأنه اضطر لرهن معطفه ليوفر المال، فلا طعام ولا أثاث، فقط ديون."

 


كيف قالها؟

حين أحب ديستويفسكي "آنا"، منعه خجله وقلقه من أن يطلب يدها مباشرة.
ولأنه كان إنسانًا حقيقيًا، رأى أنه من الإنصاف أن يمنحها فرصة للرفض من غير حرج، فابتكر طريقة عبقرية تتناسب مع طبيعته الحساسة.

سألها عن رأيها في نهاية روايته الجديدة التي لم يجد لها ختامًا.
كانت الرواية تحكي عن فنان فقير، مريض، يده مصابة بالشلل، طيب القلب، لكنه لا يجيد التعبير عن مشاعره.
قال لها:

"إنه رجل لم يعد شابًا، في مثل عمري، يلتقي فتاة في عمرك تقريبًا، ولنسمّها آنا، إنه اسم جميل، أليس كذلك؟"

 

لعبة عبقرية تليق بعقل ديستويفسكي.


حوار الحب المستتر

تقول آنا:

> "نسيت تمامًا أن اسمي آنا. ظننت أنه يتحدث عن خطيبته القديمة (آنا فاسيليڤنا) التي استلم منها رسالة مؤخرًا."

 

واستمر الحوار، فسألها:

> "ماذا يستطيع رجل عجوز، مريض، غارق في الديون أن يمنح فتاة شابة ومرحة؟
ألن يكون حبها له تضحية قاسية؟ ألن تندم يومًا على ربط مصيرها به؟
هل يعقل أن تحبه رغم الفقر والمرض؟"

 

ثم قال بلطف:

"هذا ما أريد أن أعرفه منك يا آنا غريغوريفنا، ما رأيك؟"

 

أجابت آنا بصراحة:

"ولماذا لا؟ إذا كانت الفتاة ذات قلب طيب، فلن يهمها فقره أو مرضه.
إن كانت تحبه، فستكون سعيدة ولن تعرف الندم أبدًا."

 

عندها حسم ديستويفسكي الموقف وسألها بصوت مرتجف:

"تخيّلي نفسك مكانها... وتخيّلي أن هذا الفنان هو أنا...
وأنني صارحتك بحبي وطلبت يدك... فماذا ستقولين؟"

 

تقول آنا:

"أدركت أنه لم يعد حديثًا أدبيًا عابرًا. نظرت إلى وجهه المرتبك وقلت:
إذن لأجبتك بأنني أحبك... وسأحبك مدى حياتي."

 

قدسية الكلمات

تكتب آنا:

"لن أنقل تلك الكلمات المفعمة بالحب التي قالها لي فيودور 
فهي مقدسة بالنسبة لي."

 

جمال روحها يتجلى هنا. لم تذكر ما قاله لأنها شعرت بقدسيته.
فالقداسة لا تُمنح، بل تنبع من صدق اللحظة وعمقها.
ربما كانت تلك اللحظة خلاصة إنسانية ديستويفسكي، الرجل الذي كتب عن العذاب والضعف والكرامة، وعاشها كلها.

 

الماسة التي وجدها أخيرًا

تروي آنا أن الحوار بينهما امتد ساعة كاملة، وفي نهايته قال مبتسمًا وهو يودّعها عند الباب:

> "أعرف الآن مكان الماسة."
قالت ضاحكة: "هل تذكرت الحلم؟"
فأجاب: "كلا، لكنني وجدتها أخيرًا، وأنوي الحفاظ عليها مدى الحياة."
فقالت له مازحة: "بل عثرت على حجر عادي."
فرد بثقة: "كلا، هذه المرة أنا متأكد أنني لست مخطئًا."


مذكرات آنا ديستويفسكي ليست مجرد سيرة زوجة، بل شهادة إنسانية نادرة عن كاتب قال عنه فرويد:

"لم يترك اضطرابًا نفسيًا إلا وعبّر عنه في رواياته."

 

لكن ما يجب أن نقرّ به دون جدال هو أن أهم ما ميز ديستويفسكي كان إنسانيته.
إنسان كتب عن الألم لأنه عاشه، وعن الفقر لأنه عرف قسوته، وعن الحب لأنه أدرك عمقه الحقيقي.