مراجعات
وتبقى العادة!
ما بين «التديُّن الشكلي»، و«الاحتفالات الصاخبة»، و«القداسة» و«المهرجانات»، لا يمكننا إنكار أن «الموالد» في مصر، تشكِّل حالة «فريدة» و«ظاهرة» اجتماعية قديمة، ضاربة في جذور الوجدان الشعبي.
وبعيدًا عن الحكم الديني، يمكن رصد تلك «الظاهرة» التي تحولت في كثير من الأحايين إلى مشهد فوضوي يعج بالممارسات الخارجة عن المعقول، لتحمل مظاهر انفلات وسلوكيات غريبة لا تمت بصلة إلى أي منطق.
في خضم تلك الفوضى، تتجلى أزمة أعمق، تتثمل في الصراع ما بين التراث الشعبي والرؤية الدينية الرصينة، أو التدين الشكلي والانفلات المجتمعي، الذي جعل من الموالد ساحات تختلط فيها القداسة بالعبث.
على مدار العام، تزدحم «الروزنامة» بالموالد، ليجد الإنسان نفسه في موقف لا يُحسد عليه، ما إن مَن يقترب من منطقة المولد، ليشعر بأنه قد زَلَّ بقدميه إلى زمنٍ آخر.. طرقات تتلوى كالأفاعي من الزحام، وأنفاس تختلط برائحة البخور والذرة المشوية، وأصوات مكبرات ترفع الأذكار والمواويل في آنٍ واحد، حتى تكاد السماء تنطبق على الأرض من الصَّخَب والضجيج!
في كل زاوية «وليٌّ صغير».. كل بائعٍ يعلن عن «كراماته الخاصة».. هذا يبيع «سِبَحًا» لـ«جلب الرزق»، وآخر يبيع حلوى «تطرد الهم»، وثالث يبيع بالونات على شكل قلوب يَدَّعي أنها «مضمونة في الحب»!
نساء محجبات وفتيات بأزياء برَّاقة، و«شيوخ» يهلِّلون بجانب مراهقين يرقصون على إيقاع المهرجانات، ولا أحد يسأل كيف اجتمع كل هذا التناقض في ساحة واحدة؟.. فالمولد عند المصريين معجزة وطنية تُعيد خلط الأوراق كل عام، لتعلن أن الفوضى قد تكون أحيانًا نوعًا من العبادة!
الطرق المؤدية إلى «الضريح» تتحول إلى طوفان بشري، يتدافع بشدة، خشية أن يفوته نصيب من البركة، رغم أنه «مولد وصاحبه غايب»، لنرى «دراويش» يهيمون في فلك لا نعلمه، وآخرين يدورون معهم بلا نية أو طقوس، فقط لأن الدوران في المولد عادة مثل التنفس.. والبعض يرفع هاتفه لتوثيق كل شيء، كأنه يخشى أن يُكذّبَه الناس والتاريخ!
في «المولد»، وكل «مولد»، يغيب المعنى وتبقى الطقوس.. يغيب «الوليُّ» وتبقى السوق.. تغيب الحقيقة وتبقى العادة، ومع ذلك، يبحث الناس عن شيء غائب.. عن معنى مفقود.. عن دفءٍ يشبه اليقين، خصوصًا عندما يشتد الكَرْب وتضيق السبل، فيلجأون «جهلًا» أو «تقليدًا» أو «عادة متوارَثَة»، إلى «الغائب» طلبًا للفرج والنجاة.
أخيرًا.. حين تسكت الفوضى الصَّاخبة بالمولد، نشعر أنها تحمل شيئًا لا يمكن تفسيره، ربما لأن الناس ـ رغم كل شيء ـ ما زالوا يبحثون عن بارقة نور، ويتشبثون بشعاع أمل، يُنهي واقعًا بائسًا ومريرًا، ليبقى السؤال: هل نذهب إلى الموالد لنحتفل بـ«وليٍّ صالح»، أم للبحث عن مستقبلنا الضائع بين الزحام؟
فصل الخطاب:
يقول «ابن خلدون»: «كثير من العامة يَغْتَرُّون بما يُتداوَل من الخرافات، فيظنونها من الدين، وليست منه في شيء، وإنما هي بدعٌ استحسنها الجُهَّال فاستمر عليها الناس بالتقليد».