موت بائع متجول
إنه ويلي لومان، البائع الذي قفز من صفحات رواية آرثر ميلر الخالدة "موت بائع متجول" ليطل برأسه الشاحب على أطلال سوق العمل المعاصر، ويذكرنا بأن مأساة فقدان الفرد لوظيفته في عالم متغير لم تنتهِ فصولها بعد.
لم تكن نهاية ويلي المأساوية مجرد سقوط حر لفرد، بل كانت زلزالًا هز أركان "الحلم الإنساني" الهش، كاشفًا عن قسوة نظام اقتصادي يلتهم من يتخلف عن قافلة التطور الجامحة. وفي سوق العمل اليوم، الذي تتسيده لغة الأرقام المبهمة وكفاءة الآلات الذكية، يجد الكثيرون أنفسهم معلقين على حافة الهاوية ذاتها التي ابتلعت ويلي، يشعرون بأن قيمتهم تتلاشى كأصابع متجمدة تحاول الاتصال بصاحب العمل، أو كأذن مترددة لم تقتنع بأنه لن يرد.
تتجلى أزمات العصر في صور شتى: مقصلة "إعادة الهيكلة" التي تقطع أوصال الاستقرار الوظيفي، وتآكل الأمان تحت مظلة العمل الحر ومشتقاته، و الذي يحوّل، بالضرورة، الكفاءات إلى سلع مؤقتة، والضغط النفسي الخانق لتحقيق "إنتاجية" تتجاوز حدود الاحتمال البشري. إنها ليست مجرد إحصائيات شاحبة في تقارير البطالة، بل هي قصص صمت مدوٍ، تعابير خافتة ليأس بطل الرواية ويلي وهو يدرك أن عمله قد انتهى، وربما حياته ايضا.
في نهاية المطاف، أنهى ويلي لومان حياته، تاركًا خلفه عمله، مديره، والحياة. زوجته ليندا لن تتوسل إليه بعد اليوم ليطلب من رئيسه السماح له بالعمل في نيويورك وتجنب مشقة السفر. لن تعود لتشكو من إخفاقات ابنهما بيف وإحباط هابي الأصغر. قرار هوارد برفض إعادته إلى العمل أصبح نهائيًا. اكتملت فصول هذه المأساة اليونانية وترك البطل المسرح بدون أن يحقق نبوءة العودة الى وظيفته.
ان مأساة ويلى لم تكن مجرد إدانة لفرد عاجز، بل كانت صرخة احتجاج صامتة ضد نظام اقتصادي يعبد الربح وحده، ويهمش القيمة الإنسانية الحقيقية. إن أزمات سوق العمل اليوم تحذرنا لإعادة تقييم هذا المقياس الظالم، والبحث عن نماذج أكثر إنسانية، وربما أكثر أخلاقيًة، حيث لا يُختزل الإنسان إلى مجرد رقم يظهر على شاشة كومبيوتر.
هل لنا أن نتعلم من حكاية ويلي ؟ هل نستطيع أن نبني سوق عمل يعرف قيمة الانسان، واحتياجاته، وكيفية تأمينها، سوق لا يختزل الجهد البشرى فى الربح فقط، وأخيرا، سوق لا يكرر مأساة البطل ويلى فى رحلة البحث عن الانتحار.