بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الأسوار

الأسوار

الرحالة والعالم الجغرافي العربي "الحسن الوزان" عاش في القرن السادس عشر الميلادي، تكشف حياته عن تفاصيل مهمة تجسد عمق المواجهة مع حالات التردي التي تقفز فجأة لتجهز على مشاريع التكوين الفكري والحضاري للمبدع الفرد وللأمة. بعد ظلام الأسر وثقل القيود التي وضعت في أطراف جسده وامتدت لتسجن عقله، ذات يوم تذكر أنه يسير في اتجاه صحيح وقد وضع لرحتله عدة علامات بهدف الوصول إليها وفجأة تغير كل الحال وامتدت حجب الظلام والضياع إلى كل شيء في حياته، تحول اسمه من " الحسن الوزان" إلى "ليو الأفريقي" وكذلك تغيرت أشياء كثيرة تبعاً لذلك منها ديانته وتاريخه وأحلامه، كاد الوزان أن يكون مسخاً، ولكنه تذكر أمراً مهماً قرر أن يبدأ من جديد، دقق في أوراقه الثبوتية وجد أنها تشير إلى ولادته في غرناطة قبل سقوطها بنحو عشر سنوات، أسرته كانت تعمل في التجارة، أحست بالخطر القابع خلف الأبواب وما يهدد آخر قلعة انحصر فيها سلطان العرب مملكة غرناطة، انتقلت الأسرة إلى فاس كانت مزدهرة في مطلع حكم "بني وطاس" الذين استعادوها إلى حكمهم في جزء من المغرب الذي كان يعاني من صراع الأمراء وتنافسهم.  تذكر " الحسن الوزان " وهو يقبع في غياهب السجن رحلة الهروب من الظلام إلى النور .. في مدينة " فاس" نشأ الوزان وتتلمذ على يد علماء ومشايخ القرويين المشهورين، تعلم اللغة وآدابها والفقه والتفسير والحديث والمنطق وسائر المعارف العربية والإسلامية، أظهر نباهة ونبوغاً مبكراً فقرض الشعر صغيراً وجادل العلماء والفقهاء وناظرهم وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، ونال الإعجاب وحصل على الشهرة الكبيرة ثم قام بأول مهمة سياسية مكلفاً من قبل سلطان "فاس" لإبرام عقد التحالف مع "إمارة السعديين" الناشئة آنذاك والمناهضة للبرتغاليين المحتلين، ركز جهوده لتوحيد الصف ضد المتآمرين المحليين، بعد عامين أوفده السلطان الوطاسي مع عمه إلى بلاد السودان حيث تباحث مع الملك "سنغاي" الذي كان قد توسع حكمه واحتل مدينة "تومبوكتو"، توغل الوزان في تلك الممالك الإسلامية والوثنية حتى زار وسط أفريقيا وغربها ثم قام بمهمة سياسية أخرى أوصلته إلى بلاد "الأطلس الكبير" اختياره من قبل الملك ليكون سفيراً لبلاده إلى بلاط أكبر قوة في الشرق وهي الدولة العثمانية أيام حكم السلطان العثماني " سليم الأول " وحضر معه المعارك والتي تم من خلالها القضاء على مقاومة المماليك ونهاية حكمهم في مصر والشام ، أنتقل الحسن الوزان بين بلدان الشمال الأفريقي عامين متتاليين وحين غادر " تونس " بحراً عائداً إلى المغرب ساقه سوء الطالع لتقع سفينته في يد القراصنة " الطليان " الذين كانوا يجوبون البحار للسطو والنهب، أسروه ومن معه بالقرب من جزيرة "جربة " التونسية، ذاك اليوم شكل غمامة سوداء في حياته منعطف مغاير وجديد غير كل تفاصيل المستقبل ساقته الأقدار أسيراً لا يملك حريته ، وصل " نابولي " مقيداً تدفعه بهمجية قاسية أيادي أشرس العتاة والمجرمين ، بيع جميع أصدقائه وأصحابه ورجاله المخلصين في سوق النخاسة إلا هو فقد انتبهوا إليه وعرفوا أنهم يملكون أسيراً عظيم القيمة والمكانة، نقلوه إلى"بابا روما" الذي تفحصه ونظر نظرة ثاقبة إلى علمه وقوة عقله فوجد فيه بغيته صارت الأحلام تتباعد عنه ، توطدت الصلة بينه وبين " البابا " أسباب ذلك التقارب ذكاء الوزان وقوة فكره ، أسوار الأسر جردته من تفاصيل حياته القديمة ، اختفى اسمه الحقيقي وصار يطلق عليه عدة أسماء " يوحنا الأسد الغرناطي – ليون الغرناطي " وبعد ذلك أتفق الجميع على أن يختاروا له اسما لازمه طويلاً هو " ليون الأفريقي " .. أمضى بين أسوار الأسر ثلاثة عقود هي شبابه وكهولته وبداية الشيخوخة ، أجاد عدة لغات وأثر في تلاميذه ومريدي الثقافة العربية والإسلامية ورغم نجاحه في نشر العلم والمعرفة بين الناس الحزن كان وشاحاً قائما ً يغلف حياته ، ففي غياب الحرية لاشيء ثمين في هذا العالم ، ظل دائم التوق للخلاص من واقع الرق وازدواجية الشخصية المفروضة عليه ، هاجساً وحلماً يحمل رغبة ملحة في الرجوع إلى وطنه والعيش في ضفاف الحرية وتحطيم قيود الأسر المهينة ، ذات يوم أندفع لركوب مخاطرة جريئة أدار ظهره لأسوار السجن ووضع جبهته باتجاه الشمس وتوغل بثقة نحو حدود بلاده نجح في الوصول إلى حافات الأرض التي قدمت له الحرية والنور والمعرفة والرجولة ، قبل بفمه حبات تلك الأرض وعندها فارقت روحه جسده بعد. 
في الأسوار كتب " الحسن الوزان "أهم كتبه في لحظات موته خط لنا عنواناً عظيما على صدر كتاب كبير هو "الحرية" تلك النافذة الكبيرة التي تشكل دائماً بوابة الكرامة للإنسان.