كبسولة فلسفية
فلسطين والوعي المهدَّد
ما يحدث اليوم في فلسطين ليس مجرد احتلالٍ للأرض، بل هو احتلالٌ للوعي ذاته. إنها معركةٌ تُدار في العقول قبل أن تُدار في الميادين، لأن الكيان الصهيوني أدرك مبكرًا أن السيطرة الفكرية تسبق السيطرة الجغرافية. لم يكتفِ باغتصاب التراب، بل حاول أن يغتصب التاريخ والمعنى، وأن يُقنع العالم بأن الضحية هي الجلاد. هكذا تُصنع الأكاذيب حين يغيب الوعي، وهكذا تُهزَم الأمم حين تُصدق ما يُروى عنها بدلًا من أن تكتب روايتها بيديها.
منذ معاهدة السلام في قمة شرم الشيخ، أُوهم العرب بأن صفحة جديدة قد فُتِحت، وأن الماضي طُوي إلى غير رجعة. غير أن الواقع أثبت أن «السلام» الذي بُني على خداعٍ فكريٍّ لا يمكن أن يُثمر عدلًا. فالاحتلال الذي يمد يده للمصافحة هو ذاته الذي يمد الأخرى لضمّ الضفة الغربية، ويتحدث عن «التهدئة» بينما يغتال الطفل ويهدم البيت. هذا ليس تناقضًا في السلوك، بل تجسيدٌ لجوهر فكرٍ يرى في الخداع وسيلةً للبقاء، وفي ضعف الوعي العربي فرصةً للتمدد من دون حرب.
لكن الفلسفة تعلّمنا أن الوعي ليس رفاهية فكرية، بل فعل مقاومةٍ عميق. أن تفكر يعني أن ترفض أن تُقاد. أن تعي يعني أن تُدرك الفارق بين ما يُقال لك وما يُراد منك. وهنا تتجلّى الفلسفة كفنٍّ للحرية، كما وصفتها بعض الأبحاث التي تناولت «فلسفة الوعي»؛ فهي الكفاح الصامت ضد الزيف، وهي السلاح الذي لا يُرى لكنه يغيّر مجرى التاريخ. فالأمم لا تُهزم بالسلاح وحده، بل حين يُصادر عقلها ويُدار وعيها من الخارج.
نحن اليوم أمام احتلالٍ مزدوج: احتلال الأرض واحتلال الوعي. الأول يُقاوَم بالبندقية، والثاني يُقاوَم بالفكر. فالعدو لا يخاف من صاروخٍ بقدر ما يخاف من فكرةٍ تُوقظ أمة. وكل شابٍّ عربيٍّ يقرأ التاريخ بعين ناقدة، وكل أمٍّ تُعلّم أبناءها أن الحق لا يُشترى باتفاقيات، هم جميعًا جزءٌ من المقاومة الكبرى، المقاومة التي تبدأ في العقل قبل أن تنتهي في الميدان.
في مصر، كما في سائر العواصم العربية، يُختبر وعينا كل يوم أمام طوفان الأخبار المضللة، والوجوه التي تتحدث باسم «السلام» بينما تُخفي في أعماقها شهوة الهيمنة. وهنا يصبح الوعي مسؤولية جماعية، لأنه الخط الفاصل بين أن نكون شهودًا على الحقيقة أو ضحايا للوهم. إن من يتنازل عن وعيه، يتنازل عن وطنه دون أن يدري.
كما لو أن الفلاسفة الكبار – فرانز فانون، وأنطونيو غرامشي، وإدوارد سعيد – قد تواطؤوا على نبوءةٍ واحدة: «حين يُحتلّ وعي الإنسان، يصبح كلُّ شيءٍ بعد ذلك ميسورًا – حتى احتلالُ روحه». وهذه هي الكارثة التي نقترب منها إذا استسلمنا للغفلة. فالقضيةُ الفلسطينية ليست مجرّد ملفٍّ سياسي، بل مرآةٌ لوعينا الجمعي، واختبارٌ لقدرتنا على التمييز بين ما يُراد لنا أن نراه، وما ينبغي أن نراه بأنفسنا.
عزيزي القارئ، الفكر الحرّ ليس ترفًا تُمارسه النخبة في أبراجها العالية، بل هو شرط البقاء الإنساني ذاته. فالمعنى هو ما يُبقي الأمم متماسكة حين تتداعى، والفلسفة هي الحارس الأخير لوعيها حين تُحاصرها الأكاذيب. وإذا كان العدوّ يسعى إلى مصادرة وعينا قبل أرضنا، فواجبنا أن نحرس هذا الوعي كما نحرس حدودنا، لأنّ السور الحقيقي للأوطان ليس من حجارةٍ وجدران، بل من عقولٍ يقظة تعرف كيف تميّز بين الزيف والحقيقة.
وفلسطين، يا صديقي، لا تحتاج إلى تعاطفٍ عابرٍ يذوب مع العناوين، بل إلى يقظةٍ دائمةٍ لا تخدعها الشعارات ولا تُسكِتها المسكّنات. لأنّ الذين يملكون الوعي لا يُحتلّون مرّتين: مرّةً في الأرض، ومرّةً في الفكر. وما دامت العقول مستيقظة، فإنّ الهزيمة لا تكتمل أبدًا، بل تبقى مؤجَّلة حتى ينهض الوعي من جديد، ويقول كلمته التي لا تُقال إلّا من موقع النور.
[email protected]