خارج السطر
الإصلاح السياسى.. الفريضة الغائبة
عرَّت سنوات العاصفة 2011-2013 النخبة السياسية فى مصر. كشفت مخازى، سترت حُجباً، أزالت أقنعة، وفضحت نفوساً تاجرت سنين بشعارات العدالة والحرية والديمقراطية، وأبانت خريطة فساد انخلع لاعبوها عن مصلحة الوطن، وربطهتم مصالح ذاتوية ضيقة.
دفع كل ذلك صُناع القرار الجُدد للامساك بكل خيوط السياسة، وتأجيل الاصلاح السياسى تأجيلاً مفتوحاً، والاستغناء عن شكليات دولة مبارك، تحت زعم التجهز والتوحد اللازم لحين مرور العاصفة.
طالت فترة التجميد الإصلاحى، انبثقت شِلل انتفاع صغيرة، ما لبثت أن كبرت، وتكيفت مع الوضع المؤقت، فذوت السياسة تماماً، وتراخى الاهتمام بالشأن العام، وعجزت التشكيلات المنشأة حديثاً والموجهة عن استيعاب الشارع، والتأثير فى المواطن.
اعتقد أهل الحل والفعل أن الإصلاح السياسى يقود حتماً إلى تغيير، وأن التغيير بالضرورة ضد الاستقرار، ورأوا أن الإصلاحات السياسية البسيطة التى أجراها نظام مبارك عام 2005 كانت وراء سقوطه فى 2011. لكن فى حقيقة الأمر فإن ذلك الإصلاح هو ما أجل سقوط نظام مبارك وأطال عمره خمس سنوات أخرى، وهو ما قاله لى يوماً أحد الوزراء المُهمين فى عهده. لقد شاخ نظام مبارك بعد الألفية الثالثة حتى اتسعت الفجوة بينه وبين جيل الشباب، الذى لم يقتنع أن هناك سبباً يسمح ببقاء حاكم لأكثر من ربع قرن مهما كانت سجاياه ومزاياه؛ لذا فقد استهدفت تعديلات المادة 76 من الدستور وقتها، والسماح لمترشحين بمنافسة الرئيس فى الانتخابات، امتصاص نقد الشباب، والحفاظ على شكلية الديمقراطية المزعومة.
بعد ضبط الفوضى، وتحقيق الاستتباب، اصطف الشعب لمواجهة الإرهاب، انطلقت أحلام التنمية، انفتحت صنابير الخير، ووضع العمران أحجاره التأسيسية فى مناطق عديدة، بُنيت المؤسسات من جديد، وأصلحت التشريعات، وسلكت البلاد غمار مسارات إصلاح اقتصادى صعبة، تغيرت البلاد ومَن عليها، لكن بقى الإصلاح السياسى مؤجلاً، مُستبعداً، وبعيداً عن الخطاب والفعل.
قال لى مسئول دولى مُحب لمصر إن أخطر ما يواجه بلداً ما ينجو من تحديات الاقتصاد الصعبة هو انعدام السياسة.
وهذا ما نراه ونتابعه فى بلادنا كل يوم، فالحوارات المُجتمعية شكلية، قراءة الأداء باهتة، تقييم الإنجازات غير مكتمل، ومن ثم فإن الدولة تبذل جهوداً عظيمة، ولكن المواطن لا يشعر بذلك ولا يسعد بما يتحقق.
الديمقراطية تحتاج مُجتمعاً أوسع انفتاحاً وأكثر تقبلاً للتعددية. تطوير الإعلامى يستلزم حرية واسعة، ونقداً مُهذباً فى إطار القوانين للمسئولين بلا استثناء. ممارسة السياسة حق شرعى ودستورى لكل مواطن، ولا يجب تقييده وصياغته وانتقاء مَن يقومون بها. الرقابة الصارمة لا يُمكن أن تُنتج فناً عظيماً أو تُخرج كوادر إبداع مؤثرة فى العالم المحيط.
بعد ستة شهور من استيلاء الضباط الأحرار على السلطة عام 52، أعدموا الأحزاب تماماً، وصاغوا نموذجاً جديداً لممارسة السياسة هو الكيان الواحد، الذى اتخذ أشكالاً ونسخاً مختلفة حتى قرر الرئيس السادات بعد انتصار أكتوبر 73، واستقرار الأوضاع، السير فى طريق الإصلاح السياسى، وإنشاء المنابر، التى تطورت إلى أحزاب سياسية. فيما بعد حاول نظام مبارك مسرحة الحياة السياسية والبرلمانية فسمح بمسارات تنفيس أوسع مدت فى عمر نظامه ثلاثين عاماً.
والآن يبدو واضحاً أن الإصلاح السياسى ضرورة لازمة، تحتاج أولاً لقناعة أهل الحل والعقد، وإيمانهم بأن أفضل إنجاز يُمكن تحقيقه للتاريخ وتركه للأجيال القادمة هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة. ثُم خطة عمل جادة وحقيقية ترسم مسارات للسياسة تسمح بالتعددية اللازمة والراشدة، بما يحمى مكتسبات الدولة المدنية ويجمع الناس على قضية التنمية المستدامة باعتبارها قضية القضايا، وغاية الغايات.
والله أعلم