بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الإعلام العربي في عصر الهيمنة الرقمية

يشهد الفضاء العربي لحظة فارقة في تاريخه الإعلامي. فلم تعد التحولات الرقمية مجرد طفرات تكنولوجية، بل تحوّلت إلى ظاهرة بنيوية تُعيد تشكيل موقع الإعلام في بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد. فما نشهده من انتقال متسارع نحو البيئات الرقمية لا يقتصر على تغيير أدوات النشر والتفاعل، بل يطرح تساؤلات عميقة حول موقع الإعلام العربي في مشهد عالمي تزداد فيه المنافسة على التأثير، والمعرفة، والسيادة الرقمية.
لقد تحرّر الإعلام العربي، وإن جزئيًّا، من البُنى التقليدية التي قيدت فاعليته لعقود، وبدأ يُعيد تعريف نفسه في ظل فضاء رقمي يتيح له تجاوز الحواجز الجغرافية والسياسية. وفي القلب من هذا التحول، تبرز المنصات الرقمية العربية بوصفها مجرد أدوات لنقل المحتوى، بل لإنتاج الواقع الاقتصادي والثقافي، والتأثير في أنماط الاستهلاك، واتجاهات الرأي العام.
فمنذ اتساع نطاق الإنترنت والهواتف الذكية، أصبح المشهد الرقمي العربي أحد أكثر المشاهد نموًا على مستوى الاستخدام والتفاعل. إلا أن هذا التمدد الكمي لم يُترجم دائمًا إلى مضمون نوعي قادر على تمكين الإنسان العربي من أدوات الفهم والتأثير في مجاله العام. وهنا تتجلى الإشكالية الكبرى: كيف يمكن الانتقال بالإعلام الرقمي العربي من حالة التلقي إلى حالة الفعل، ومن التفاعل السطحي إلى البناء الاستراتيجي؟
اللافت أن المنصات العالمية، مثل تيك توك، قدمت نموذجًا لكيفية هيكلة منصة رقمية تتجاوز كونها وسيلة ترفيه، لتصبح فاعلًا اقتصاديًا وسياسيًا عابرًا للحدود. انطلقت المنصة من الصين، لكنها فرضت نفسها في السوق الأميركية والأوروبية، وبلغ عدد مستخدميها أكثر من 700 مليون مستخدم نشط شهريًا بحلول عام 2020، من بينهم 40 مليونًا في الولايات المتحدة وحدها. هذا النمو لم يأتِ عبر الأطر التقليدية لنشر المحتوى، بل عبر إعادة برمجة الترفيه نفسه، وتقديمه بوصفه لغة العصر، ومفتاحًا للنفاذ إلى وعي الأجيال الجديدة.
هذا النموذج يؤكد أن أي منصة رقمية تمتلك القدرة على تجاوز الحدود الوطنية متى ما امتلكت الرؤية، والقدرة على الابتكار، ومهارة صياغة خطاب رقمي يتقاطع مع السياقات الثقافية والاجتماعية لمستخدميها. ولعل هذا الدرس ينبغي أن يكون في صلب أي مشروع عربي لإنشاء منصة رقمية قادرة على توسيع الحضور العربي عالميًا، ليس كرد فعل على الهيمنة الرقمية الغربية أو الشرقية، بل كخيار واعٍ لبناء مستقبل رقمي ذي سيادة معرفية وقيمية.
في هذا الإطار، برزت خلال السنوات الماضية منصات عربية استطاعت أن تخلق مساحة خاصة بها، مثل "نون" في التجارة الإلكترونية، و"كريم" في النقل الذكي، و"أبجد" في المحتوى الثقافي. وقد ساهمت هذه المنصات في خلق فرص عمل، وتمكين رواد الأعمال، وفتح نوافذ جديدة أمام الاقتصاد غير التقليدي. إلا أن هذا النجاح، على أهميته، لا يزال محصورًا في نماذج فردية ومحدودة التأثير على المستوى البنيوي العام.
والمفارقة أن حجم سوق الإعلام الرقمي العربي لا يزال أقل بكثير من إمكاناته الحقيقية. ففي ظل أكثر من 400 مليون ناطق بالعربية، وارتفاع مستويات استخدام الإنترنت في دول الخليج وشمال أفريقيا، تبقى نسبة المحتوى العربي على الإنترنت أقل من 3%، بحسب بعض التقديرات. إن هذا الضعف في الحضور الرقمي العربي لا يعود إلى نقص الوسائل، بل إلى غياب هندسة فكرية تؤطر الإعلام الرقمي كمنصة للتنمية والسيادة الثقافية والاقتصادية.
ولا تقتصر أهمية الإعلام الرقمي العربي على مستوى الاقتصاد الرقمي أو التجارة الإلكترونية، بل تمتد إلى بناء القوة الناعمة العربية، وإعادة تقديم الرواية الذاتية للعالم. فكما استطاعت الصين أن تدمج مشاريعها الرقمية ضمن رؤيتها الجيوسياسية، يمكن للدول العربية أن تُعيد تقديم نفسها للعالم من خلال خطاب رقمي يعبّر عن مصالحها وقيمها، ويخاطب الأجيال الجديدة بلغتها وأسئلتها، بعيدًا عن الصور النمطية التي رسّختها منصات إعلامية عالمية ذات مصالح موجهة.
ورغم كل هذه الإمكانات، لا تزال التحديات قائمة. فغياب بنية تحتية رقمية قوية في بعض الدول، وتفاوت مستوى الاستثمار في التعليم التقني، والافتقار إلى تشريعات واضحة لحماية الحقوق الرقمية، كلها عوامل تعيق نمو الإعلام الرقمي العربي وتحوله إلى رافعة اقتصادية فعلية. إلى جانب ذلك، فإن النزعة الفردية في تطوير المنصات، وغياب التكامل الإقليمي، تجعل من كل تجربة ناجحة مشروعًا معزولًا بدلًا من أن تكون نواة لنموذج إقليمي أوسع.

المستقبل، إذًا، لا يُبنى عبر مشاريع منفصلة، بل عبر رؤية متكاملة تعترف بأن الإعلام الرقمي لم يعد هامشًا، بل بات من صلب الاقتصاد والسياسة والثقافة. لا بد من أن تلتقي الاستثمارات التكنولوجية مع الإرادة السياسية، والسياسات التعليمية مع المشاريع الإعلامية، والمحتوى الإبداعي مع البنية التحتية الرقمية، في مشروع نهضوي عربي رقمي عابر للحدود.
في خاتمة هذا الطرح، لا بد من التنويه بأن الصوت الرقمي لم يعد امتدادًا للإعلام، بل صار بحد ذاته تعبيرًا عن الوجود، ومَن لا يمتلكه سيُكتب عنه بدلًا من أن يكتب نفسه. وإذا لم يتم بناء منصات عربية قادرة على التأثير، فإننا سنبقى في موقع التلقي، مستهلكين لمفاهيم وتصورات ليست من صنعنا. المستقبل لن ينتظر المترددين، ومن لا يدخل معركة الوجود الرقمي اليوم، سيجد نفسه غدًا على هامش التاريخ الرقمي الجديد. إذاً، فالقضية لم تعد تتوقف عند حدود بناء منصات إعلامية، بل أصبح صراعًا على من يمتلك القدرة على تشكيل الوعي الجماعي وتوجيه خيال المجتمعات نحو مستقبل يخدم أجندته وأولوياته.