كامارون ديلا إيسلا: لحن الوداع الغجري
في الثاني من يوليو عام 1992، صمت الصوت الذي هز أركان الأندلس، رحل كامارون ديلا إيسلا، تاركًا خلفه صدى أنين روحه المتفردة، لحنًا غجريًا لم يكتمل. لم يعد قادراً على مقاومة السرطان الذي استبد بجسده، لينهي رحلة فنية قصيرة كتبت آخر فصولها في بادالونا، لكن قلبه كان متعلقًا بتراب سان فرناندو، مسقط رأسه، حيث أراد أن يرقد بسلام.
لم تكن جنازة كامارون مجرد وداع فردي، بل كانت عرضًا مهيبًا للحداد الجماعي، سيمفونية صامتة تعزفها قلوب مفجوعة. موكب طويل، توقف في " فينتا دي فارجاس"، معقل الفلامنكو، و المكان الذي شهد بداياته الأولى، ثم انطلق ببطء نحو قلب سان فرناندو. ثلاث ساعات استغرقها الوصول إلى مثواه الأخير في الدير الصغير، وسط حشود غفيرة من الغجر وعشاق الفلامنكو، الذين تدفقوا من كل من كل مدن وقرى إسبانيا ليودعوا أسطورتهم الأخيرة.
في الشوارع الضيقة، ارتفعت أصوات البكاء المكتوم وكلمات الرثاء الصادقة. الغجر، الذين عرفوا كامارون ابنًا، تتجسد فيه روحهم الحرة، والذين اهتزت أعماقهم بعذوبة صوته الحزين ، كانوا هناك بأعداد غفيرة، وجوههم شاحبة وعيونهم دامعة. محبو الفلامنكو، الذين أسكرتهم نبراته الحادة وأحاسيسه المتدفقة، كانوا يقفون صامتين، يحملون في قلوبهم ذكرى صوت لن يتكرر.
إلى جانب النعش، يسير صديقه ورفيق دربه، عازف الجيتار باكو دي لوسيا، وجهه يعكس حزنًا عميقًا لفقدان توأم الروح، النصف الآخر من معزوفة إسبانية صارت بلا صوت، ورحلة انتهى إيقاعها، وتوقف راقصيها، وصمتت جيتاراتها. في نهاية المطاف، تجمع كل عازفي الفلامنكو، أولئك الذين تعلموا منه وأولئك الذين تأثروا بفنه، ليقدموا وداعهم الأخير للصديق والأخ.
وكأنه يبحث عن شيء مفقود. ينادي كامارون في أغنيته " صانع السلال": يجب أن تكون شريكي، إذا تزوجت يوما ما. وفي أغنيته "عندما أراك، تبكي الزهور" يعلن لحظة ميلاد حبيبته: لأن الزهور تحب، وُلِدَتْ كل الزهور في اليوم الذي وُلِدتِ فيه. وفي " عيناك نجمتان " نجده يصرخ في صخب ويقول : أنا خائف من التفكير. ثم يعترف في أغنيته " أنا سائر" بحقيقة الاغتراب، ووصوله لمحطة النهاية " أنا أسير على طول الطريق أمامي، أبحث دائمًا عن مكان للراحة"، وفي الأخير، نجده مستعدا للرحيل "عندما أفتح الباب، لن تراني مرة أخرى".
مات كامارون، بنته ماريا لن تلعب معه على شاطئ كاسيريا، زوجته دولوريس مونتويا، لن تسمع كلمة "لا تشيبسا" بعد الآن. أغنية "حلوى السكر" لن تعزف مرة أخرى، و"عاشق أبريل ومايو" لن يعود، وصديقه باكو دي لوسيا لن يسمع" كلما نظرنا إلى بعضنا البعض " على المسرح مرة أخرى، وتوقفت نغمات "مثل الماء"، ولتبقى أغنية "أنا غجري" الوشم الثابت في ذاكرة الغجر.
التابوت مغطى بعلم الغجر الملون، أغنية جنائزية قديمة، راية ترفرف بحنين لانتمائه العميق لجذوره القديمة وهويته المتفردة. في صمتٍ مُثقل، يقف أصدقاؤه أمام جسده النحيل، يلقون بأزهار القرنفل الأبيض، نظرات أخيرة، رحل الصوت وبقيت ذكريات كامارون. وبينما كان النعش يُحمل ببطء نحو مرقده الأخير، ارتفعت في الأجواء أصوات الفلامنكو الحزينة، كأنها ترانيم الرحيل الأخير. رحل كامارون، لكن صوته سيظل يسكن أزقة سان فرناندو كهمس أبدي، ويبقى في قلوب عازفي الفلامنكو لحن الوداع الغجري.