طوفان الأقصى.. قراءة في كواليس عامين من الحرب
في الوقت الذي كان يجتمع فيه الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني في شرم الشيخ لعقد المفاوضات النهائية لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، شهدت سماء سيناء مشهدًا رمزيًا غير مسبوق: طائرات مصرية حلّقت تحمل علمَي مصر وفلسطين معًا. لم يكن هذا مجرد تعبير عن التضامن، بل موكب احتفاء بالنصر —
نصر مصر في إعادة إحياء القضية الفلسطينية، بالإضافة الي تثبيت موقعها المحوري في المعادلة الإقليمية. بعد ان ربحت الاهداف غير المعلنة لعملية طوفان الاقصي والتي صنعت دلتا من المصالح المصرية الاستراتيجية.
فحرب غزة الأخيرة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل محطة فاصلة كشفت انهيار الردع الإسرائيلي وتحطم مشاريعها الاقتصادية المنافسة لقناة السويس.
فنتنياهو، الذي صاغ عقيدة أمنية تعتمد على إدارة الأزمات واستثمار الحروب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تكتيكاته القائمة على "الضرب الموجع" لم تعد فعّالة.
خسائر الجيش الإسرائيلي تجاوزت خمسة آلاف قتيل وجريح.
الهجمات الصاروخية من حزب الله هجرت عشرات الآلاف من شعب إسرائيل.
وعندما تهور نتنياهو وقصف إيران عقب زيارة وزير خارجية إيران لمصر في يونيو الماضي .
وصلت صورايخ طهران لكامل جغرافيا إسرائيل المقدرة 22 ألف كيلومتر لتدمر مواني ومطارات و تحصد مرافق علمية وعسكرية واقتصادية استراتيجية وتخرجها من الخدمة وتقتل و تجرح المئات من الإسرائيليين .
نتنياهو كان يعتمد على مبدأ “الضرب الموجع”، لكنه تجاهل أن الردع لا يتحقق بالقوة فقط، بل بالقدرة على إنهاء الصراع بوضوح استراتيجي. وهو ما فشل فيه
بهذا التحوّل، خرجت إسرائيل من الحرب فاقدة لقدرتها علي الحسم ، بعدما كانت تتباهى بأنها رأس الحربة في المنطقة وتقدم نفسه كشرطي للمنطقة .
وتحول المدنيون الفلسطينيون الذين قضوا بأعداد كبيرة، تجاوز 200 ألف قتيل وجريح إلى عبء سياسي وأخلاقي داخليًا ودوليًا. علي إسرائيل.
فمن يكسب المعركة مئة مرة دون أن يغيّر استراتيجيته، يزرع هزيمته بيده. وهذا مافعله نتنياهو كان يضرب في كل اتجاه بشكل عشوائي ولا يحقق الاهداف الا في مرمي تل أبيب. .
ساهم في أضعاف نظام الأسد حتي سقط ليجد الأتراك على حدود إسرائيل عبر وكيلهم الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع.
لم ينهر حزب الله بعد اغتيال حسن نصرالله وحركة حماس
أكثر قدرة علي المناورة والقتال والتفاوض حتي بعد استشهاد السنوار . والنظام الإيراني أصبح أكثر قوة بعد حرب ال 12 مع إسرائيل بعد ان عالج كل الثغرات التي كشفتها الحرب ..
هذا يؤكد أن نتنياهو كان يقصف ولكن في الاتجاه الآخر..
تلك الضربات غير المؤثرة كشفت لهم ثغرات المنظومة الإسرائيلية مما سمح بعد ذلك بوصول سهل لصواريخ اليمن لمرمى إسرائيل بعد ان تراوغ خط الدفاع الجوي الإسرائيلي، حتي اغتيالاته لرموز المقاومة كحسن نصر الله وإسماعيل هنية والسنوار والضيف، فقد أعادت إلى الذاكرة عواقب اغتيال أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي عام 2004،
كان الثأر لهم هو أحد المبررات التي فجّرت طوفان الأقصى بعد عقدين..
قال نتنياهو إنه سيغيّر خريطة الشرق الأوسط لصالح “إسرائيل العظمى” — لكنه غيّرها فعلًا، لكن ضد إسرائيل نفسها؛ إذ فقدت سيادتها، وأصبح ويتكوف وكيل العقارات المخلص لترامب هو من يمسك بخيوط القرار الإسرائيلي.
في بداية طوفان الاقصي كانت إسرائيل تقصف غزة بشرعية وغطاء أمريكي بريطاني فرنسي .وفي النهاية عندما ادركوا انهم يراهنون علي حصان ميت تخلوا عنه .
فتنياهو حول غزة إلى حقل تجارب عسكرية، واستثمر في التصعيد الدوري يقصف إيران وسوريا واليمن والعراق وقطر
لإعادة تشكيل الرأي العام في إسرائيل حول صورته كرجل أمن قوي.من العار ان يستمر شعبه في محاكمته بتهم تتعلق بالفساد .
لكن عدم حسمه للحرب كسر هذه المعادلة، وأدي إلى فقدان صورة الجيش الذي لا يُهزم وتراجع الشعور الجمعي بالأمان في إسرائيل إلى أدنى مستوى منذ عام 1948..
في السياسة كما في الحرب، أسوأ ما يمكن أن تفعله هو أن تبدأ معركة دون أن تعرف كيف تنهيها.
فأحدثت اخفاقات الحرب تصدّعًا في شبكة التحالفات التي نسجها نتنياهو طوال سنوات عبر اتفاقيات أبراهام تعطل مشروع التطبيع مع الرياض وأصيب بالشلل في أبوظبي.
.والموقف المصري الرافض لسياسات التهجير، والتقارب العسكري المصري–التركي في شرق المتوسط، أعادا التوازن الإقليمي وأضعفا قدرة إسرائيل على المناورة. واصاب قبرص واليونان بالارتباك والتوتر .
والتنسيق مع إيران في البحر الاحمر
اطاح باحلام إسرائيل كمركز دائرة ممرات الطاقة والتجارة .
فمشروع "ممر بايدن التجاري"الذي أعلن 2023 كان يهدف إلى إخراج مصر وتجاهل تركيا وتعطيل طريق حرير الصين .
من تلك اللعبة لصالح إسرائيل.
يبدأ الممر من الهند بحرًا إلى الخليج العربي.
يمر برًا عبر الإمارات، السعودية، والأردن إلى الأراضي المحتلة حتى ميناء حيفا.
ثم يصل إلى أوروبا عبر البحر المتوسط إلى ميناء بيرايوس في اليونان.
خط أنابيب الإمارات – إيلات – عسقلان كان جزءًا من المشروع نفسه...
هذا المشروع، إلى جانب خط أنابيب الإمارات – إيلات – عسقلان، كانا بمثابة محاولة لخنق قناة السويس وقتل دورها التاريخي، وعندما اتنبّهت له القاهرة أوقفت نقل جزيرتي تيران وصنافير للرياض
فالتحليل الإسرائيلي نفسه أقرّ بخطورة هذا التحول على مصر. فقد نقلت صحيفة جلوباس الاقتصادية عن الباحث يوئيل جوزانسكي من معهد INSS قوله إن مصر ستكون "أكبر الخاسرين" من هذا المشروع، لأن قناة السويس تمثل شريان الحياة لاقتصادها الذي يعتمد على عائدات بلغت 9.4 مليار دولار عام 2023.
وعلي مستوي خط ايلات عسقلان لنقل النفط
قبل حرب طوفان الاقصي ، كانت هناك مؤشرات على أن المشروع دخل حيز التنفيذ التجريبي بالفعل:
فناقلات مثل "نيسوس كيا" و*"إيونا"* و*"نيسوس كيروس"* حمّلت مئات آلاف الأطنان من النفط من إيلات إلى سنغافورة وسريلانكا، ما أثبت أن الخط بدأ يعمل فعلاً..
في الأساس هذا الخط وحده يسرق من قناة السويس 15% علي الاقل من ناقلات النفط التي تمر بها ..
لكن بعد 7 أكتوبر 2023، طوفان الأقصى
، استهدفت الصواريخ الفلسطينية ومن بعدها صواريخ حزب الله وإيران موانئ حيفا وعسقلان، واشدود وفرض الحوثيون حصارًا على الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، مما أدى إلى إغلاق ميناء إيلات بالكامل وتعثر المشروع البديل لقناة السويس التي خسرت 66% من إيراداتها بسبب تعطل البحر الأحمر ولكن علي المدي القريب بعد وقف الحرب سوف تتجاوز إيراداتها 10 مليار دولار. رقم كفيل بأن يرفع سعر الجنيه المصري مقابل الدولار سريعا في ظل تحسن مؤشرات الاقتصادي الكلي ليصل لسعر دون 40 جنيه لكل دولار مما يجعل التضخم الذي أرهق المصريين يغادر مصر ..
فالتجارة تفضل أن تدفع أكثر في ممر هادئ جيوسياسيًا
ولاتخاطر وتدفع أقل في بئية جغرافية غير مستقرة وفي حالة عداء تاريخي متواصل مع كل جيرانها في المنطقة وبذلك تكون الرسالة وصلت للراعي الرسمي لمشروع ممر بايد وخط ايلات عسقلان . ومفادها إسرائيل دولة غير صالحة لمثل تلك المشاريع التجارية فهي في حالة حرب مستمر منذ العام 1948 وحتي الآن.
وهي لا تواجه الخطر من الخارج فقط، بل من داخلها. يعيش المجتمع الإسرائيلي اليوم حالة من القلق الجماعي وفقدان الثقة بالمؤسسات الأمنية. تحوّلت المدارس إلى ملاجئ مؤقتة، والأسواق إلى مناطق خالية، وأصبح الخوف جزءًا من الحياة اليومية، وانقلب سحر القوة علي الساحر فالخوف المزمن داخل المجتمع المسلّح يُعد مؤشرًا على بداية تآكل شرعية الدولة. فحين تفقد القوة معناها الأخلاقي، تتحوّل إلى عبء يلتهم صاحبه من الداخل. وهذا ما حدث في إسرائيل...
مظاهرات كل يوم تطالب نتنياهو بوقف الحرب، وصحيفة Haaretz تكتبت افتتاحية لافتة تقول:
“حتى لو تطلّب الأمر الإفراج عن مروان البرغوثي، فإن صفقة الأسرى الآن أصبحت ضرورة وطنية.
ومظاهرات في عواصم دول العالم تطالب بوقف الحرب وتسليم نتنياهو للمحاكمة الدولية . واعتراف دولي بدولة فلسطين .
عاصفة عالمية من الغضب جعلت ترامب نفسه يخشي علي مصالحه..
كيف أُجبر نتنياهو على قبول وقف إطلاق النار ؟
لم يأتِ قبول نتنياهو بوقف إطلاق النار من فراغ، بل نتيجة تآكل مكانته الدولية وانقلابات متتالية في علاقاته.
كانت البداية علي مسرح الأمم المتحدة علي هامش اجتماعات الجمعية العامة وجد نفسه منبوذ ثم كانت القشة التي قسمت ظهره
عندما رفض الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي — المعروف بتشدده الصهيوني — استقبال نتنياهو بداية هذا الشهر خوفًا من خسارة حزبه الانتخابات، بعدما أصبح الأخير عبئًا منبوذًا عالميًا. بسبب جرائم الابادة التي ارتكبها في غزة واستخدام الجوع كسلاح .
ثم جاء الانقلاب الأمريكي علي نتنياهو، والبداية كانت إجباره على الاعتذار رسميًا لدولة قطر، وأعلان ترامب أن قطر "محميّة عسكرية أمريكية"، في رسالة مباشرة لنتنياهو مفادها: انت من الآن تحت الوصاية مسلوب الأهلية السياسية جنونك يصور لك انك تستطيع أن تحارب العالم."
ثم تعمّد ترامب إذلاله اكثر عبر إعلان قبوله رد حماس بوقف الحرب، متجاهلًا ذكر نتنياهو تمامًا، ما مثّل رسالة إهانة علنية أمام الرأي العام الدولي.وكذلك في إسرائيل
وتوّجت تلك السلسلة من الإهانات
بأمر نتنياهو بأن يسمح لذراعيه ويتكوف وكيل عقارات ترامب الوفي وزوج ابنته كوشنر شبكة ترامب في اصطياد صفقات المال الخليجي
بتراس اجتماع الحكومي الإسرائيلية المنوط بإعلان وقف الحرب ، ليبدوا كأنهما من يديران إسرائيل فعليًا.
في حضور رموز نتنياهو المتطرفين بن غفير و سموتريش
ولم يعترض اي منهم علي تلك المهزلة .
فكتب أحد المعلقين الإسرائيليين ساخرًا: "لم يسبق أن رأينا رئيس وزراء بهذا القدر من العزلة والشفقة."
لقد أصبح نتنياهو مجرد أداة فقدت قيمتها السياسية، ونُزعت السيادة الإسرائيلية فعليًا لصالح واشنطن.
لماذا أهان ترامب نتنياهو بهذا الشكل؟
ترامب، الذي لا يريد خسارة الشرق الأوسط كما خسر الهند أمام الصين وروسيا بسبب سياساته الحمائية، الجمركية، أدرك أن استمرار نتنياهو في حرق محيطه بقوة السلاح
سيقود في النهاية إلى ظهور ناتو عربي–إسلامي موحّد يهدد النفوذ الأمريكي.
ومن هنا، لم يكن أمامه إلا الانقلاب عليه وإجباره على التراجع وقبول وقف النار.
نتيجة هذا التحول: إسرائيل فقدت استقلال قرارها الأمني وساعد ترامب علي ذلك ان الشعب بدأ يشكك في جدوى القادة العسكريين ونتنياهو أصبح رمزًا للفشل الشعبي، وعجزه عن استعادة الأسرى الذين ظلوا محتجزين أكثر من عامين سجّل فشله الاستراتيجي. الدمار الذي نشره في غزة جعل اليهود في كل العالم محاصرين بموجة شعبية عالمية غاضبة ..
لم تتعلم إسرائيل اي درس من
التاريخ فالطمع في الممرات وفرض الضغط يولد قوة مضادة.
فعندما أغلقت الإمبراطورية العثمانية:
البحر الأبيض المتوسط، دفع هذا أوروبا لاكتشاف طرق بحرية جديدة عبر أفريقيا للوصول للهند فاكتشفوا
، الأمريكتين.
وعندما أغلقت الدولة العثمانية طريق الحرير الصيني، ما حرم الصين من اللحاق بالثورة الصناعية الأوروبية فاختل ميزان القوة واصبحت أوروبا قوة عاصفة اطاحت بالدولة العثمانية التي اصبحت مجرد رجل مريض
سلوك إسرائيل في طوفان الأقصى يعيد نفس الأخطاء
الإفراط في استخدام القوة يولد نتائج عكسية ويعيد تشكيل الجغرافيا السياسية
فقد جعل مصر أقرب لإيران وفي تقارب عسكري مع تركيا ومعظم دول العالم تنادي بدولة لفلسطين علي حدود ما قبل حرب 1967 ارادها نتنياهو إسرائيل الكبري فانتهي الأمر به مجرم حرب مطلوب للمحاكمة وفيتو من الدول الكبري يمنعها من ضم الضفة الغربية وقطاع غزة ورفض تام للمشروع تهجير الشعب الفلسطيني.
انه مشهد النصر الاستراتيجي الذي لم يكن ضمن أهداف إسرائيل علي الاطلاق .
فالحرب في غزة أعادت تموضع شامل للشرق الأوسط:
جردت إسرائيل من سيادتها و
أصابت مشروع التطبيع بالشلل،
وأفشلت ممرات بايدن وابن زايد، وأعادت فلسطين إلى الجغرافيا السياسية بقوة وفشل مشروع التهجير لسيناء. بفعل رفض مصر لضغوط غير مسبوقة
جعل القاهرة تستعيد دورها الاستراتيجي.
و خرجت من الأزمة أكثر قوة وفاعلية، بعدما استعادت مكانتها كممر عالمي استراتيجي لا يمكن تجاوزه
وقناة السويس احتفظت بحيويتها.
و ميناء إيلات مفلس اقتصاديًا. وموانئ الشمال الإسرائيلي
غير مستقرة .
والردع الإسرائيلي تآكل، ونتنياهو أصبح منبوذًا عالميًا. مطلوب للمحاكمة كمجرم حرب.
لذا حلّقت الطائرات المصرية في سماء شرم الشيخ رافعة علمَي مصر وفلسطين، تحتفي بالنصر
والرسالة أن مصر ليست مجرد وسيط سلام، بل قوة صانعة للتاريخ، قادرة على إعادة التوازن الاستراتيجي للمنطقة
فتحية تقدير لصمود شعب غزة الذي غيّر خريطة الشرق الأوسط .