تأملات
انتصار نظرية الجدار الحديدى!
منذ أكثر من مائة عام وبالتحديد فى عام 1923 كتب القيادى الصهيونى فلاديمير جابوتنسكى (1880 - 1940) مقالًا راح فيه يضع رؤيته لمواجهة أى أخطار تواجه مساعى إنشاء الدولة اليهودية فراح يقول إن الطريقة الوحيدة التى يمكن أن يوافق بموجبها العرب على دولة يهودية فى فلسطين هى القوة التى تسحقهم وتذعنهم، مضيفا أن «الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاق مع الأعداء العرب فى المستقبل هى التخلى عن كل فكرة تسعى إلى الوصول إلى اتفاق معهم فى الوقت الحالى».
ورغم أن رؤية جابوتنسكى التى عرفت بنظرية الجدار الحديدى لم تلق القبول التام، إلا أن السياسة الإسرائيلية على مدار تلك السنوات المئة تمثل سعيا لتحقيق تلك الفكرة، خاصة من خلال التيارات المتطرفة والتى تمثلها فى وقتنا الحالى حكومة نتنياهو والذى يعتبر رئيسها أن جابوتنسكى الأب الروحى له.
بعيدًا عن التفاصيل التى يكمن الشيطان فيها بشأن المباحثات التى تدور لوقف الحرب فى غزة، فإن مآلات العملية تشير إلى أن الاتفاق ربما يكون النزع الأخير للمقاومة المسلحة والتى لن تقوم لها بعده قائمة. رغم ما تمثله هذه الكلمات من قسوة، وما تحويه من رؤية تبدو متشائمة إلا أنها فى التحليل الأخير ربما لا تتجاوز توصيف الواقع. فموافقة حماس، بعيدا عن الأسباب التى دفعتها إلى ذلك ومنطقيتها، على قبول فكرة تسليم سلاحها ضمن خطة ترامب التى تقضى بأن تكون غزة منزوعة السلاح، إنما يعنى انتهاء زمن المواجهات المسلحة مع إسرائيل فى سعى الفلسطينيين لانتزاع حقهم فى إقامة دولة مستقلة، وأن الخيار الأساسى المطروح أمامهم لم يعد يتجاوز فكرة المقاومة السلمية التى قد لا تغنى ولا تسمن من جوع.
بالطبع فإن كل الاحتمالات قائمة وسيناريوهات المستقبل بشأن مسار القضية الفلسطينية متعددة خاصة فى ظل ما تحقق من مكاسب على خلفية طوفان الأقصى، لدرجة توقع البعض أن يكون مخاض الفترة الحالية قيام الدولة الفلسطينية! على خلفية موجة الاعترافات بتلك الدولة ومن دول لم يكن فى الحسبان أن تقدم على مثل تلك الخطوة. غير أننا إذا أردنا الحقيقة فإن الواقع الحالى، فلسطينيًا وعربيًا، يشير إلى أن الأمر لو استمر على ما هو عليه قد لا يفرز سوى منطقة حكم ذاتى فلسطينية فى قطاع غزة، مع مواصلة مكثفة من إسرائيل لهضم وابتلاع الضفة الغربية لتخرج تماما من معادلة كونها أرضا فلسطينية.
واذا كانت السياسة الدولية لا تعرف الحتميات فى محاولة استشراف المستقبل، وهو ما يضع احتمالات أخرى اكثر ايجابية حال حدوث ظروف استثنائية لصالح الفلسطينيين على غرار تولى ترامب الذى مثل تحولا استثنائيا لصالح اسرائيل، فإن ذلك مما لا يجب البناء عليه كثيرا فى توقع مسارات المآل الذى ستنتهى اليه القضية الفلسطينية.
إن نزع سلاح المقاومة، بغض النظر عن الصيغة والأسلوب، هو رصاصة الرحمة الأخيرة على جهود ومساعى تحقيق الحلم الفلسطينى، وبغض النظر عن الظروف التى أدت اليه، وليس فى ذلك إدانة لعملية 7 اكتوبر، فإن ذلك يمثل فى النهاية انتصار الرؤية الإسرائيلية لشكل ومسار الصراع. المشكلة الأكبر أن استثمار تل أبيب لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، أسفر عن توسيع جبهة انتصارها ليشمل فكرة المقاومة بالمنطقة ككل، للحد الذى تجاوز حزب الله مثلا ليتسع لحد شموله دولة مثل إيران.
وإذا كان المثل يقول إن الايام دول.. فلعل فيما جرى، وفيما سيجرى من تداعيات يمثل دروسًا لنخرج كعرب من تلك الدائرة من الانكسار!