طرح النهر.. وطرح الحكومة
عشرون ثانية مدة الفيديو الذى نشرته بوابة الوفد الإلكترونية، وقامت بتصويره الزميلة سناء عثمان، يظهر خلال الفيديو رجل مسن تجاوز السبعين عامًا، وقد حاصرته مياه الفيضان أمام منزله، ضاربًا كفًا بكف صارخًا شاكيًا بأن الجاموسة التى يمتلكها «اللى حيلته» ماتت، وأنه: «سالف حق الفاصوليا ومش قادر يسددها.. وكله راح بسبب الفيضان»!
عشرون ثانية من الوجع والحسرة تظهر المأساة التى يعيشها أهالى قرية «دلهمو» التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، بعد أن غمرت مياه الفيضان بيوتهم وأراضيهم، عشرون ثانية لرجل نحرت الأيام جسده الهزيل، قبل أن تنحر مياه الفيضان ما يملك، عشرون ثانية استبقها رئيس الوزراء محذرًا خلال مؤتمر الحكومة الأسبوعى من العاصمة الإدارية قبل يوم واحد من مشاهدة تلك الكوارث، حول احتمالية تعرض محافظتى المنوفية والبحيرة لارتفاع كبير فى منسوب مياه النيل خلال شهر أكتوبر.
المفاجأة ليست فى التحذير المُسبق للسيد رئيس الوزراء، أو أنه كما أوضح على علم بحدوث تلك المشاهد مع تحديد الأماكن بدقة حيث قال: «يشهد شهر أكتوبر معدلات تصريف مرتفعة للمياه عن المعدلات المتوسطة، وبالتالى هناك بعض المناطق سوف تغمرها المياه وتحديدًا فى محافظات المنوفية والبحيرة».
المفاجأة الحقيقية هو سياق التبرير الذى سرده الدكتور مدبولى بأن تلك الأراضي «طرح نهر»، وأن هذه الأراضى تم الاعتداء عليها، وأن تواجد عدد من المواطنين «المعتدين» على هذه الأراضى تواجد غير قانونى، مؤكدًا: أن الزراعات التى يقومون بها زراعات موسمية على أراض هى فى الأساس جزء من نهر النيل، ثم قال نصًا: «عشان لما هيحصل غمر هذه الأراضى بالمياه خلال شهر أكتوبر، هانبدأ نسمع شكاوى بأن هناك أراضى غرقت بالمياه، وبعض العشش والبيوت البسيطة المبنية على حرم مياه النيل»، مؤكدًا للتذكير إذا حدث شىء خلال شهر أكتوبر: «نكون عارفين فى الأساس أن هذه الأراضى هى أراض طرح نهر متعدى عليها، غير مسموح بالبناء أو الزراعة عليها».
نلاحظ خلال الفقرة السابقة أن نص حديث رئيس الوزراء هو حالة إبراء ذمة واضح لما سيحدث من مشاهد مأساوية بتأكيداته المتكررة أنها أراضى طرح نهر، وإمعانًا فى إبراء الذمة من تلك الحسرات على وجوه أهالى قرية «دلهمو» وغيرهم، قال سيادته أن خطة الحكومة واضحة تمامًا بحصر هذه الأراضى وتوجيه إنذارات للمحافظين بإبلاغ المواطنين أنه من المتوقع احتمال زيادة منسوب المياه.
والسؤال هنا.. هل صحيفة إبراء الذمة التى قدمتها الحكومة تكفى؟ هل تحذيرات محافظة المنوفية للأهالى بضرورة إخلاء المنازل والمزارع المقامة على أراضى طرح النهر تحسبًا لقدوم الفيضانات منعت المأساة؟ والسؤال الأهم: هل نحن مستعدون حقًا لتحذير إبراهيم دعبس الخبير فى مجال الموارد المائية والرى، والأستاذ المساعد بجامعة المنصورة، بأن الفيضان الحقيقى لم يبدأ بعد؟! والأخطر هل نحن على استعداد لمواجهة فيضان صناعى مفتعل نتيجة الإدارة الأحادية وغير المسئولة للسد الإثيوبى أو تصرف عشوائى عبثى من أديس بابا؟
فى النهاية: أراض طرح النهر موجودة من زمن بعيد، والأهالى المتواجدون عليها، واقع لا مفر منه، أسر مصرية، أطفال ورجال ونساء وشيوخ، لهم حياة يجب الحفاظ عليها، ولا يمكن بأى حال تركهم هكذا بسبب طرح النهر، لأنهم أيضًا طرح الحكومة.
أخيرًا: أن تفشل التنبؤات والتحذيرات من منع الكوارث، أو تعجز عن التعامل معها والتخفيف من آثارها، فهذا أمر مؤسف، أما أن تتحول إلى حالة من إبراء الذمة، فهذا أكثر أسفًا وأشد مَرارًا.