فلسطين تكتب فصولها الجديدة (2) آن أوان السلام العادل والدائم
لم يعد ممكنًا أن تستمر إسرائيل فى حرب الإبادة على أهل غزة، وكأن العالم قد اعتاد صور الركام والجثث والأطفال المذعورين. هذه المأساة لن تُنهيها الدبابات ولا الطائرات، بل يوقفها فقط تفاوض صادق يضع حدًا للقتل الجماعى، ويعيد الأسرى والمعتقلين إلى بيوتهم، ويمهّد الطريق لإعمارٍ ينهض من بين الأنقاض ليمنح الناس حقهم فى الحياة.
إنّ المستقبل الذى نطمح إليه ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة إنسانية. نريد غزة أخرى: مدينة للكرامة، لا مقبرة مفتوحة؛ بيوت مضاءة بعد ليل طويل، مدارس تحضتن الأطفال بدل الخيام، وجامعات تُخرّج أطباء ومهندسين ومبدعين. نريد شبابًا يغنون للحرية لا للمراثى، وأمهات يودّعن أبناءهن إلى قاعات الدرس لا إلى ميادين القتال. هذه هى غزة التى تستحق أن تُبنى، لا لأنها حلم الفلسطينيين وحدهم، بل لأنها أمل إنسانى لكل من يؤمن بأن العدالة لا تتجزّأ.
لكن إعادة الإعمار ليست حجرًا وإسمنتًا فقط، بل هى إعادة بناء للضمير والوعى. على الدول العربية أن تتحمّل مسئولياتها التاريخية: أن تفتح حدودها للأطباء والمعلّمين والمهندسين ليشاركوا فى البناء، وأن تنخرط نخبها الفكرية والتربوية فى صياغة مناهج تعليمية جديدة تزرع ثقافة التعايش بدلًا من ثقافة الإلغاء والموت. وحدها المناهج العادلة تقدر أن تُخرج جيلًا فلسطينيًا وإسرائيليًا يرى فى الآخر شريكًا لا عدوًا، إنسانًا لا حيوانًا.
الحقيقة الصارخة التى لا يجوز التهرّب منها: منذ السابع من اكتوبر 2023، حماس واسرائيل ارتكبتا جرائم حرب مع تفاوت الفداحة واعداد الضحايا، ولا يجوز لنا أن نفرّق فى تثمين النفوس وتسعير الارواح، فإمّا أن تكون حياة البشر جميعًا، عربا ويهودا، مقدسة، أو تسقط منظومة القيم بأسرها. آن الأوان أن يُقال بوضوح: لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة مع ازدواجية المعايير. المستقبل لا يُبنى على حرب ابادة على الطرف الفلسطينى، بل على شراكة إنسانية جريئة تعترف بحقوق الشعوب فى العيش فى أمان. ومن دون هذه الشجاعة، سيبقى الشرق الأوسط أسير دوامة القتل والانتقام جيلًا بعد جيل.
والخطوة الأولى نحو هذا الأفق تبدأ بوقف الحرب المدمّرة فى غزة، وبإعلان دولى واضح أن حياة الفلسطينى ليست أقل قيمة من حياة الإسرائيلى. الأمن لا يُبنى على الحصار والجدران، بل على العدالة والاعتراف بالحقوق. والسلام الحقيقى لا تصنعه المدافع، بل تصنعه الشجاعة فى مواجهة الحقائق، والإرادة الصادقة لبناء مستقبل يتقاسم فيه الفلسطينى والإسرائيلى أرضًا آمنة لا ساحة قتل.
فلْتكن حرب غزة آخر الحروب، ولْيكن دم الضحايا بدايةً لاتفاق عادل يُنهى عقودًا من الظلم. عندها فقط يمكن القول إن العالم استعاد إنسانيته، وإن الشرق الأوسط بدأ مسار سلام حقيقى يقوم على العدالة والمساواة، لا على القوة والهيمنة.