بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

عبور الأرض بالأمس.. وعبور المستقبل اليوم

في كل مرة يطل علينا شهر أكتوبر، لا يمر كغيره من الشهور، بل يجيء كالعاصفة التي تقتحم الذاكرة الوطنية لتذكرنا أننا أبناء أمة لا تعرف الاستسلام.

أكتوبر ليس مجرد تاريخ على ورق، بل هو جرس إنذار يوقظ الوعي الجمعي، يذكرنا أن الدم الذي سال على رمال سيناء لم يكن فقط من أجل عبور قناة، بل من أجل عبور أمة كاملة من الهزيمة إلى النصر، من الانكسار إلى الكبرياء، ومن التبعية إلى صناعة القرار.

هنا يبدأ الحديث، ومن هنا تخرج الكلمات التي لا تخفت قوتها مهما مر الزمن.

اثنان وخمسون عاما من العبور لا يمكن اختزالها في لحظة عسكرية فقط، فعبور الأرض بالأمس كان عبورا للجغرافيا وللحدود وللوعي، بينما عبور المستقبل اليوم هو عبور للتنمية والبناء والسياسة والمكانة.

النصر الذي تحقق في أكتوبر 1973 لم يكن محطة نهاية، بل كان بداية طريق طويل ما زلنا نسير فيه حتى الآن، نفتح فيه جبهات جديدة للانتصار، من حماية الأمن القومي إلى حماية مياه النيل، ومن استرداد الأرض إلى استرداد دور مصر الإقليمي وصوتها بين الأمم.

انتصارات أكتوبر هي اللحظة التي كتب فيها تاريخ جديد للأمة العربية، تلك اللحظة التي حطمت أوهام العدو وأعادت للمصريين كرامتهم وثقتهم في قدرتهم على صناعة المستحيل.

منذ السادس من أكتوبر 1973 وحتى الآن، يظل ذلك النصر العظيم حاضرا بقوة في وجداننا، لا بوصفه مجرد ذكرى، بل كقيمة حية تتجدد مع كل تحد يواجه الوطن.

ومن هنا أرى أن الحديث عن انتصارات أكتوبر بعد مرور 52 عاما ليس تكرارا لمشهد تاريخي محفوظ، بل تأكيد على أن عبور الماضي إلى الحاضر ما زال يمدنا بالقوة والعزم.

حين أستعيد تفاصيل تلك الأيام، أجدني أعود إلى ما هو أبعد من الحرب نفسها، إلى الجغرافيا السياسية التي رسمت ملامح المنطقة منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916.

تلك الاتفاقية التي مزقت الأرض ووزعت المصالح على حساب الشعوب، جاءت سايكس- بيكو لتقاسم النفوذ بين فرنسا وبريطانيا في بلاد الشام والعراق، فجمدت الأوطان وشردت الشعوب بلا رحمة.

ثم جاء وعد بلفور في 1917 ليزرع كيانا غريبا في قلب المنطقة، ويشعل صراعا ممتدا حتى الآن، فمنذ توقيع وعد بلفور، وضعت بذور الانقسام في قلب الشرق الأوسط.

تلك الوثيقة، التي رعت تبني مشروع استيطاني في فلسطين، كانت شرارة تأسيس الكيان الصهيوني على حساب حق الشعب العربي. بعد ذلك.

واليوم نواجه نسخة جديدة من تلك الوعود في ما يعرف بـ "وعد ترامب 2025"، وهو ليس إلا انعكاسا لمحاولات متكررة لإعادة رسم خرائطنا وفق أهواء القوى الكبرى.

فقد جاء وعد ترامب كنسخة معاصرة، يعد بدعم دولي صريح للاحتلال، ليعيد إنتاج المأزق القديم بصيغة جديدة.

الربط بين هذه الأحداث التاريخية يوضح أن أكتوبر لم يكن فقط انتصارا عسكريا، بل كان أيضا رفضا لمنطق التبعية والهيمنة.

ولأن أكتوبر ارتبط دوما بالمعجزات، فقد شاءت الأقدار أن يتزامن شهر أكتوبر هذا العام مع فيضانات غزيرة هطلت على مصر بشكل غير مسبوق.

فبينما كان الكثيرون يحذرون – بناء على تنبؤات ونظريات – من أن سد النهضة بأثيوبيا سيعطش مصر إلى حد الموت، جاءت الأقدار لتفاجئهم؛ في أكتوبر الحالي، اجتاحت السيول مناطق واسعة، وارتفع منسوب نهر النيل، فتح مفيض توشكي، وفتحت بوابات السد العالي وكافة الترع، لتظهر المياه في كل أصقاع الأراضي الزراعية والمجاري الفرعية.

وتؤكد تصريحات علمية حديثة أن مفيض توشكي فتح على ارتفاع 177 متر خلف السد العالي، بعد تفجير صخري بطول 9 أمتار، ليصريف المياه الزائدة بعيدا عن مواجهة الكارثة.

بهذه المناسبة، أرى أن صراع المياه لم يكن يوما صفقة فنية بين مهندسين، بل هو محور في معركة الهوية الوطنية.

كل تدبير، كل بوابة تفتحها الدولة، هو استجابة للقدر الذي طالما صاغته القوى الخارجية منذ بدايات القرن العشرين.

إن فيضان أكتوبر لم يكن صدفة، بل رسالة؛ أن الأرض التي سعى الآخرون إلى تجفيفها من الذاكرة تقاوم أن تنسى، وأن الماء، إذا عاد، يعود بترنح في جسد الأمة كلها.

تلك الأمطار امتلأت بها بحيرة السد العالي، وامتلأت معها بحيرات مفيض توشكى، والنهر الصناعي، وكل الترع والمجاري المائية في مصر.

بل وصل الأمر إلى فتح الخزانات لتصريف المياه الزائدة في البحر المتوسط.

أليست هذه مشيئة رب السموات والأرض .. ليقول التاريخ إن الأرض لا تعطش مصر أبدا، مهما تعالت الأصوات التي روجت أن سد النهضة سيكون نهاية النهر الخالد؟

ها هو أكتوبر يأتي بالفيضان ليبرهن أن النيل عصي على الانكسار، وأن مصر قادرة على إدارة ملف المياه بذكاء وعزيمة.

فعندما ترى سيول المياه تغمر الأراضي، تغمر القلوب، يغدو التاريخ حيا من جديد.

إنه أكتوبر، شهر الانتصار، شهر المقاومة، لكنه أيضا شهر الانكفاء إن لم ننتبه.

وفي الوقت نفسه لا يمكنني أن أفصل بين انتصارات الجيش في أكتوبر 1973، وبين ما حققته وزارة الداخلية في شهر أكتوبر علي مر السنين من ضربات ناجحة للإرهاب وتجار المخدرات.

هذه وقائع حقيقية تؤكد أن معركة الوطن مستمرة، وأن أبطال الشرطة يقفون جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة لحماية الشعب. كل رصاصة توجه ضد الإرهاب هي امتداد لطلقة أطلقها جندي على خط بارليف قبل نصف قرن.

ولا أرى أن الانتصارات تنحصر في ساحة القتال فقط، بل تمتد إلى ميدان السياسة والإدارة.

القيادة السياسية المصرية اليوم تسير على نهج أكتوبر؛ المبادرة لا رد الفعل، التخطيط لا الارتجال، العمل الصامت لا الضجيج الإعلامي.

فكما فاجأت مصر العالم بالعبور عام 1973، تفاجئه اليوم بقدرتها على إدارة الأزمات، سواء في ملف الطاقة أو الأمن الغذائي أو استعادة الدور الإقليمي في محيطها العربي والأفريقي.

أقولها بصراحة؛ أكتوبر ليس مجرد تاريخ، بل فلسفة حكم وبقاء.

عندما أتأمل تلك المسيرة، أجد أن التاريخ يصطف بجانبنا دائما في شهر أكتوبر.

فها نحن نحتفل بالذكرى 52 للعبور، بينما الواقع السياسي يضعنا أمام محاولات تقسيم جديدة تشبه سايكس بيكو، وأمام ضغوط دولية تعيد للأذهان وعد بلفور، وأمام تحديات مائية واقتصادية تذكرنا بصعوبة السنين.

لكن الفرق الجوهري أن مصر لم تعد الدولة الضعيفة التي تنتظر قرارات الآخرين، بل صارت قوة قادرة على صناعة القرار، وصاحبة كلمة مسموعة في المنطقة.

من هنا أفهم لماذا تبقى انتصارات أكتوبر كلمة السر في الوجدان الوطني.

إنني أكتب هذه الكلمات وأنا مدرك أن بعضهم سيعتبرها عاطفية، لكنني أراها قراءة واقعية لمعادلة لم تتغير؛ مصر تنتصر حين تتوحد إرادتها، وتخسر حين تنقسم. في أكتوبر 1973 توحد الجيش والشعب، فكان العبور.

في أكتوبر 2025 توحدت مؤسسات الدولة لمواجهة الإرهاب والأزمات، فكان الصمود.

هذه ليست مصادفات، بل قوانين حياة تكتبها الجغرافيا والتاريخ معا.

لا أكتب هذه السطور لأستدعي بطولة الماضي من باب الحنين، بل لأقول إننا اليوم نعيش في قلب أكتوبر ممتد، حيث تتجدد معاركنا بأشكال جديدة، من الإرهاب إلى الاقتصاد، ومن أزمة المياه إلى محاولات التدخل الخارجي.

ويبقى الانتصار ممكنا ومضمونا طالما ظللنا متمسكين بروح أكتوبر التي لم تنكسر أبدا.

فالتاريخ يعيد نفسه لمن يستحق أن يصنعه، ومصر دائما تستحق.