بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

إطلالة

إجازات بلا روح

في السنوات الأخيرة، اتخذت الحكومة قرارًا بتأجيل الإجازات الرسمية التي تقع في منتصف الأسبوع إلى يوم الخميس، بهدف منح الموظفين عطلة نهاية أسبوع طويلة تبدأ من الخميس وتنتهي مساء الجمعة أو السبت، وهو ما اعتُبر خطوة لتحسين التوازن بين الحياة العملية والشخصية، وزيادة كفاءة العمل، بل وتحفيز السياحة الداخلية. إلا أن هذا القرار، رغم مزاياه الشكلية، يحمل في طياته عددًا من السلبيات العميقة التي تمس الهوية الثقافية والدينية والوطنية للمجتمع المصري، وتؤدي إلى تفريغ المناسبات من مضمونها الحقيقي.
من أكثر المناسبات التي تأثرت سلبًا بتأجيل الإجازات، هي المناسبات الدينية، مثل المولد النبوي الشريف، وليلة الإسراء والمعراج، والهجرة النبوية. هذه المناسبات لها قيمة روحانية وتاريخية كبيرة في قلوب المسلمين، وترتبط بتواريخ وأيام معينة في التقويمين الهجري والميلادي. فعندما يتم تأجيل الإجازة المرتبطة بهذه المناسبات إلى يوم الخميس – بغض النظر عن اليوم الفعلي للمناسبة – يبدأ الناس في فقدان الإحساس بالحدث نفسه.
فعلى سبيل المثال، أصبح الكثيرون لا يعرفون متى ولد النبي محمد ﷺ تحديدًا، أو في أي يوم هجري تصادف ذكرى الهجرة. يتحول الأمر إلى مجرد "يوم عطلة"، ولا يشعر الناس بالارتباط الروحي أو التاريخي بالمناسبة. بل إن بعض المدارس والمؤسسات لا تنظم أي فعاليات توعوية أو احتفالية في اليوم الأصلي للمناسبة، طالما أن العطلة قد تم ترحيلها. بهذا الشكل، يتحول المولد النبوي من مناسبة دينية حافلة بالتأمل والابتهال والاحتفاء بسيرة النبي الكريم، إلى مجرد يوم إضافي للراحة في نهاية الأسبوع.
ولم تكن المناسبات الدينية المسيحية بمنأى عن هذا القرار أيضًا، حيث تأثرت هي الأخرى بتأجيل الإجازات إلى يوم الخميس، مما أدى إلى فقدان الارتباط الزمني والديني بهذه الأعياد المهمة. فمثلاً، مناسبات مثل عيد الميلاد المجيد وعيد القيامة وعيد الغطاس، تحمل رمزية روحية وتاريخية عظيمة لدى المسيحيين، وتقام فيها الصلوات والطقوس الخاصة في توقيتها المحدد، والذي يرتبط غالبًا بتقويم كنسي دقيق لا يتغير. لكن عندما تُرحّل الإجازة المرتبطة بهذه الأعياد هذا التغيير يُضعف من الشعور الجمعي بالحدث الديني، ويُفقد المجتمع تماسكه حول طقوس موحّدة كانت توحّد الجميع، مسلمين ومسيحيين، حول احترام مواعيد هذه المناسبات ومشاركتها بروح وطنية مشتركة.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عندما يتعلق بمناسبات وطنية كبرى، مثل ذكرى نصر أكتوبر المجيد، التي توافق السادس من أكتوبر من كل عام، والتي كانت تُعد رمزًا للفخر القومي والانتصار العظيم الذي حققه الجيش المصري في عام 1973. هذه الذكرى كانت تُحيى في يومها، في المدارس، وفي وسائل الإعلام، وفي الشوارع وحتى داخل البيوت. الأطفال كانوا يعرفون أن السادس من أكتوبر يوم لا يُنسى في تاريخ مصر.
لكن مع ترحيل الإجازة إلى يوم الخميس، قد تمر ذكرى هذا النصر دون أن يلاحظها أحد. كيف يمكن لناشئة الأجيال الجديدة أن يشعروا بعظمة الحدث، وهم لا يعرفون تاريخه الدقيق؟ لقد أصبحت المناسبات الوطنية – مثلها مثل الدينية – ضحية للترحيل الإداري، تفقد رمزيتها وتغيب عن الوجدان الجمعي.
إن تحديد موعد المناسبة – سواء كانت دينية أو وطنية – له دلالة رمزية وتربوية عميقة، لأنه يربط المواطن بتاريخ بلده وعقيدته، ويشكل جزءًا من ذاكرته الثقافية. حين نعتاد على تغيير تواريخ المناسبات لمجرد الراحة، فإننا نُحدث انفصالاً تدريجيًا بين الناس ومناسباتهم، ونجعل من هذه الأحداث مجرد أيام خالية من الروح، بلا هدف سوى الراحة والنوم أو السفر.
كما أن ذلك يضر بوعي الأجيال الجديدة، التي تنشأ دون فهم حقيقي لتاريخ بلادها أو مناسباتها الدينية. هل يمكن تخيل أن يعرف طالب في المرحلة الابتدائية أن ذكرى العاشر من رمضان – على سبيل المثال – تم الاحتفال بها يوم الخميس 12 من رمضان؟ أو أن ليلة الإسراء والمعراج تم الاحتفال بها بعد موعدها بيومين؟ هذا التشويش لا يُناسب أمة تسعى لترسيخ هويتها الثقافية والدينية والوطنية في نفوس أبنائها.
مكاسب اقتصادية واهية أمام خسائر معنوية جسيمة
قد يرى البعض أن تأجيل الإجازات يعزز من معدلات الاستفادة من العطلات، ويمنح فرصة للسفر أو الراحة أو تعزيز السياحة الداخلية، ولكن هل يمكن مقارنة هذه المكاسب المؤقتة بالخسائر المعنوية والثقافية طويلة الأمد؟ إن المناسبات الدينية والوطنية ليست مجرد أيام على التقويم، بل هي جسور ممتدة بين الماضي والحاضر، وبين المواطن وتاريخه، وعلينا أن نحافظ عليها ونحتفل بها في توقيتها الصحيح.
من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في هذا القرار، أو على الأقل استثنائه فيما يخص المناسبات الدينية والوطنية الكبرى، حتى لا تضيع قيمتها من قلوب الناس. يمكن أن تستمر فكرة العطلة الممتدة في حالات المناسبات الاجتماعية أو الإدارية، لكن عندما يتعلق الأمر بتاريخ الأمة أو مناسبات دينية ذات طابع روحي عميق، فينبغي أن نحترم توقيتها، ونمنحها ما تستحق من التقدير.