بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

فيروز، والطفل الذي لن يعود

في نهاية أغنية أنا وشادي، تقول السيدة فيروز، من كلمات الأخوين الرحباني: "ضاع شادي، والتلج إجا وراح التلجْ، عشرين مرّة إجا وراح التلج وأنا صرتْ إكبر، وشادي بَعدو صغيَّر، عم يلعب عَ التلج". في زوايا ذاكرة الطفلة فيروز، حيث تحتفظ بأغلى كلماتها وتتمسك بأجمل ألحانها، يظل صديقها الطفل حيًا، يافعًا كما غادر عالمها. صورته لم تتغير بداخلها، لا زال صغيرا يلعب بالثلج. تتذكره بضحكته الرنانة التي تملأ الفراغ، وبعينيه البريئتين اللتين تحملان ألوان الطفولة الأولى. صورته محفورة بداخلها، ثابتة أبد الدهر، كتمثال من نور في معبد وجودها. 
وبرغم سؤالها البرئ : "وينك رايح يا شادي؟"، تكرر نداؤها المتكرر له "انده له وما يسمعني"، "ويواصل الابتعاد "ويبعد، يبعد بالوادي، حتى تصل الطفلة إلى الحقيقة  "ومن يومتها ما عدت شفته" وتقنعها دموع الإجابة "ضاع شادي". 
في عالم الأخوين الرحباني الساحر، يصبح ألم الطفولة الغائبة لحنًا أبديًا. يصرّون على تدوين هذا الوجع الصغير لأنه يحمل في طياته صرخة البراءة المهدورة، ورمزًا لفقدان النقاء في عالم الحرب. إنهم يرون في هذا الفراق المبكر مرآة تعكس مرارة الوجود وقوة الذاكرة التي تحتضن طيفًا لن يكبر أبدًا، ليظل سؤالًا معلقًا عن معنى الفقد.
لماذا يصر الزمن أن يتوقف عند صورة شادي وهو طفل صغير؟ لماذا لا تسمح له فيروز بالنمو في مخيلتها، بالتجول في دروب ذكرياتها؟ ربما لأنها لا تزال تحتفظ بالبراءة التي فقدت من عالمها، حين فقدت شادي. شادي، هو رمز لنقاء فيروز، تراه يركض في الحقول الذهبية، وشعره يداعبه الهواء، تشاهده يكتب على الأحجار" قصص صغار" أو يجلس بجانبها على مقعد الدراسة، يهمس بأسرار الطفولة. صوته لا يزال يتردد في آذانها، نغمًا باقيًا لم يخفت. نتذكره كما لو أن رحيله كان بالأمس، وكأنها على موعد للقاء لم يتم.
شادي، تلك الصورة الطفولية المجمدة في قلب فيروز، ليست مجرد ذكرى قديمة، بل هي نافذة سحرية تطل على حدائق حاضرنا، نتذكر منها من فقدناهم، ونحلم برؤية من غابوا، ونأمل فى عودة من رحلوا. إنها شهادة الأخوين الرحباني على إمكانية وجود عالم أكثر براءة، عالم فقدناه برحيله المبكر، لكننا نتشبث ببقاياه في تلك الصورة الثابتة على جدران قلوبنا. تبقى أغنية "أنا وشادي" أكثر من مجرد أغنية للرحبانية؛ إنها دخان سحري يحيط بذكريات صامتة وأحلام مسلوبة، ورمز مؤثر لرحيل الأحباء في عالم يمضي دون التفاف. فيروز، بصوتها الملائكي، تحافظ على شادي حيًا في ذاكرتها، ليصبح طيفًا أبديأ يذكرنا بما فقدناه، ويوقظ فينا الحنين إلى عالم أكثر نقاءً، عالم نتشبث ببقاياه في أغنية سوف تتردد كلماتها في قلوبنا إلى الأبد.