«لفت نظر»
بريطانيا.. ما بين الوعد والاعتراف
قد يرى البعض ان اعتراف بريطانيا على وجه الخصوص بدولة فلسطين يعد حدثا عاديا.. ومن الممكن ان يحاول آخرون التقليل من الاعتراف نفسه كحدث بالقول انه مجرد اعتراف بدولة محتلة وسوف تظل محتلة.. أما وعد بلفور الذى أصدرته بريطانيا نفسها فهو اعتراف ووعد بوطن قومى لليهود فى فلسطين وشتان الفارق بين الموقفين.
نعم قد يكون كل ما سبق صحيحا ولكنه ابدا لا يقلل من الاعتراف التاريخى لبريطانيا بدولة فلسطين وفى هذا التوقيت على وجه الخصوص الذى كانت اسرائيل تستعد فيه لالتهام غزة ودفن ما تبقى من القضية.
اعتراف العديد من الدول الأوروبية دفعة واحدة خطوة غير مسبوقة تعكس تحولا فى المزاج السياسى الأوروبى، فبريطانيا انضمت رسميا فى الاعتراف بدولة فلسطين، إلى سلسلة من الدول الأوروبية التى اتخذت مواقف مشابهة فى الأسابيع الأخيرة، فى وقت يتصاعد فيه الغضب الشعبى والبرلمانى من استمرار الاحتلال الإسرائيلى والانتهاكات فى الأراضى الفلسطينية.
بداية من إيرلندا وإسبانيا والنرويج، مرورا بسلوفينيا وبلجيكا، وصولا إلى بريطانيا، بدا واضحا أن ثمة تحولا استراتيجيا فى نظرة أوروبا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى. فبعد سنوات من التردد، بدأت هذه الدول تتحدث بلغة مختلفة، أكثر وضوحا وأقل مجاملة للآلة الدبلوماسية الإسرائيلية.
البرلمان البريطانى الذى انقسم من قبل عدة مرات حول الملف الفلسطينى، صوت مؤخرا بأغلبية كبيرة لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فى إشارة قوية إلى تحول المزاج داخل النخبة السياسية البريطانية. كما أن وزير الخارجية البريطانى أعلن أن «الاعتراف بفلسطين لم يعد مجرد مسألة رمزية بل ضرورة سياسية لتحقيق السلام العادل والدائم».
يتزامن هذا التحول مع تصاعد موجات التضامن الشعبى فى أوروبا مع الشعب الفلسطينى، خاصة فى أعقاب العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة والانتهاكات فى الضفة الغربية، بما فيها الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، والاستيطان المتسارع، وحصار غزة الذى طال لعقود.
الحكومات الأوروبية وجدت نفسها أمام ضغوط داخلية وخارجية متزايدة، حيث خرجت مظاهرات حاشدة فى لندن ومدريد وأوسلو ودبلن، مطالبة بالعدالة للفلسطينيين، ووقف الدعم غير المشروط لإسرائيل، والاعتراف الفورى بالدولة الفلسطينية.
الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين تضع إسرائيل فى زاوية دبلوماسية محرجة، حيث تحاول تل أبيب تقليص الأضرار عبر حملات ضغط على العواصم الأوروبية، محذرة من أن الاعترافات الأحادية الجانب قد «تقوض فرص السلام». لكن يبدو أن هذا المنطق لم يعد يقنع صانعى القرار الأوروبيين، خاصة بعد عقود من الجمود فى مفاوضات السلام، التى فشلت فيها إسرائيل فى تقديم أى تصور حقيقى لحل الدولتين.
اعتراف بريطانيا، الدولة صاحبة «وعد بلفور» التاريخى، يحمل رمزية عميقة، وينظر إليه على نطاق واسع كنوع من تصحيح المسار التاريخى. كما أنه يفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى كانت مترددة فى اتخاذ خطوة مماثلة.
يقول مراقبون إن اعتراف لندن لا يعنى فقط موقفا أخلاقيا، بل هو تعبير عن إدراك استراتيجى جديد بأن استمرار الاحتلال الإسرائيلى هو مصدر رئيسى لعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، ويغذى التطرف والاحتقان على مستوى العالم.
الدول العربية، وعلى رأسها مصر والأردن وقطر، رحبت بهذه الخطوة، واعتبرتها دعما حقيقيا للشعب الفلسطينى، داعية باقى دول العالم للحذو حذو بريطانيا والدول الأوروبية التى سبقتها.
ربما لن تغير هذه الاعترافات الواقع على الأرض فورا، لكنّها بالتأكيد تساهم فى إعادة التوازن الأخلاقى والسياسى للقضية الفلسطينية، وتمنح الشعب الفلسطينى دفعة معنوية ودبلوماسية فى مسيرته نحو التحرر والاستقلال. وما بين ضغوط الرأى العام، وواقع الاحتلال المرير، وصمت دولى طويل، يبدو أن أوروبا بدأت أخيرا تصغى لنداء العدالة.