تشرد بسبب إهمال صيانة ماسورة مياه الشرب
مواطن آيل للسقوط.. انفجار مياه «أتريس» كشف ستر الغلابة

بين جدرانٍ متصدّعة تنذر بسقوط وشيك وأحلامٍ تهشّمت تحت وطأة الإهمال.. وجدت «الوفد» نفسها وسط أسرٍ تحوّل ليلها إلى جحيم، حين انفجرت ماسورة مياه بقرية أتريس بالجيزة لتُخلف بيوتًا نصفها قائم ونصفها الآخر ركام.. كأنها أنصاف حياة متروكة على حافة الانهيار.
تجوّلت «الوفد» بين المنازل المنهارة، ورصدت أسرة اختبأت في غرفة يوشك سقفها أن يتهدم فوق رؤوسهم، وثعالب وجدت طريقها إليهم من فتحات الجدران، وأخرى سدّت الشروخ بقطع قماش وبقايا أغطية كأنها تسد نزيف الخوف، ومُسنة وضعت متاعها تحت سماء مكشوفة، تبيت ليلتها على حصير بالٍ.. هناك ثلاجات وغسالات مقلوبة على وجوهها كضحايا غرقى، وعلى غير بعيد ملابس عُرسٍ مشبعة بالمياه لم تجد للفرح سبيلًا.. لا شيء يصف المشهد سوى أنه خراب يطارد البشر والمتاع معًا.. بينما غاب المسؤولون وخابت وعودهم!

تحت الركام
"الأهالي خرّجوا ولادي من وسط المياه زي السمك".. بهذه الكلمات بدأ "رضا شعبان" 45 عامًا، عامل بمخبز وصاحب البيت المنهار بقرية أتريس، روايته المؤلمة لـ«الوفد».
قال "رضا" بصوت تختلط فيه الدهشة بالمرارة: "بعد الساعة الواحدة منتصف الليل فوجئنا بكسر ماسورة المياه الخاصة بشركة مياه الشرب والصرف الصحي بالجيزة، كنا نايمين، وصحينا على صريخ والدتي.. المياه كان عمقها 2 متر، وولادي الخمسة كانوا عايمين فوق المساند اللي نايمين عليها.. أول حاجة عملناها إننا فصلنا الكهربا وغرقت الدنيا في الضلمة، وكل واحد بقى يخبط في الحيط لحد ما طلعناهم بطِينتهم".
واستطرد قائلًا: "إحنا 11 فردًا في بيت مساحته 210 متر مبني بالطوب اللبن والطين من طابقين، متقسم بيني وبين أخويا محمد. انهار منه حوالي 170 مترًا مرة واحدة، رغم أن البيت متين من أيام جدودي من السبعينيات.. عمر المطر ما هده ولا بان عليه خطر، لكن الماسورة دي كانت كارثة، قطرها 4 بوصة ودفنوها تحت متر ونص رمل".
وصف "رضا شعبان" مشهد الإهمال وكأنه شاهد على جريمة متعمدة: "استنجدنا باللي شغالين في المياه محدش جه، واستعنا بحد يقفل محطة المياه مفيش حد جه برضو، والأهالي هما اللي قعدوا يفحتوا وينقبوا على المحبس العمومي ساعتين لحد ما لقيناه وقفلوه، وبعدها الفنيين جم متأخر وقالوا المحبس فيه عطل وظلوا يدقوا فيه لحد ما قفلوه.. وقتها كان البيت خلاص بيتهد قدام عينينا، الميه غمرت نص الدور الأول، البيت انهار بعد 3 ساعات من فتحان المياه وكان الضغط شديدًا جدًا، البيت وقع من ركنة المياه بالداخل".

وأضاف وهو يستعرض الخسائر كأنها نُقشت في قلبه: "العفش كله راح: جهاز أسرتين معيشة كاملة، وجهاز بنتي فرحها على الأبواب، وأكلنا وشربنا؛ شكاير الأرز والمكرونة، ثلاجة، فريزر، البوتاجاز.. كله اندفن تحت الركام، وغرفة نوم الدور التاني وقعت على اللي تحتها كسرتها ومقدرناش نطلع أي حاجة".

تقارير على الورق
وقال: "اتصلنا بالنجدة، والإسعاف جاءت الساعة 2 ونص وسألت لو في إصابات، قلنا لهم الحمد لله لأ.. والمطافي سألت باندهاش وصدمة" ازاى حد طلع سليم؟!.. بعدها المحافظة عاينت، والحماية المدنية والشرطة، ورئيس مجلس المدينة صور البيت، كله عاين وصوّر لكن محدش سأل فينا! المهندس الفني لشركة المياه قال الضرر من الماسورة ووجد بها شرخًا حوالي 25 لـ30 سم، رئيس الوحدة المحلية الأستاذ أحمد حسني قالها صريحة: (المشكلة من ماسورة المياه دون نفاق) وكتب تقريرًا رسميًا عن المساحة المنهدرة وأنه يوجد بها جهاز عروسة وجهاز أسرة كاملة لم تخرج بشيء سوى ملابسها.
وأشار بغضب مكتوم: "المجلس المحلي ومجلس المدينة منعونا ندخل البيت بدافع الخطر وتحذيرهم كان: لو حصل حاجة أنت مسؤولية نفسك، مش عارفين نستخرج أي شيء، وقالوا لي: هيطلع لك قرار هدم خلال أسبوع! والإدارة الهندسية قالت لي: أنت متضرر وهتدفع 15 أو 16 ألف جنيه رسوم! هو أنا اللي هدمت البيت؟ دي ماسورة الشركة.. والمهندس الفني قال: "مصطبة الجار هي السبب"، وأنا رديت: المسافة بينهم متر إلا ربع، إزاي هتكون السبب؟".

كارثة متكررة
وكشف "رضا شعبان" أن ما جرى لم يكن مفاجأة كاملة: "دي مش أول مرة.. ماسورة المياه انفجرت قبل 5 سنين ووقتها وقع بيت في الشارع اللي ورانا فكانت آخر صيانة ليها.. المرة الأولى ربنا ستر لأنها كانت بدري، لكن المرة دي كانت الساعة متأخرة، وضغط المياه كان 100%.. كان ناقص شبر وتوصل للثلاجة".

وبصوت مثقل بالخذلان قال "رضا": "محدش وفرلنا حاجة: لا سكن، لا أكل، لا شرب.. لا محافظة، ولا محليات، ولا جمعيات، ولا شؤون اجتماعية، لو كنا في القاهرة كانوا اتحركوا، لكن إحنا في الأرياف مش متشافين على الخريطة".
وأضاف: "الجمعية الشرعية قالت لي طلع غسالة نجيب لك غسالة، طلع حلة نجيب لك حلة.. طب وجهاز بنتي اللي باظ؟ نزلت أشتريت كتب لأولادي بدل اللي ضاعت. اشتريت سريرين ومراتب عشان العيال كانوا بيناموا على الأرض".
وأكمل: "صاحبة البيت اللي سكنّتنا ربنا يجازيها خير، قالتلنا لو هتقعدوا 3 سنين مش عايزين منكم جنيه. مبادرة فردية سترتنا من الشارع.. الجهات المعنية اللي المفروض تجهز لنا بيت بديل غايبة؛ على الأقل كانت ساعدتنا في تجهيزه، غيّرنا له سباكة ومياه.. كل شيء على حسابنا".
واختتم صاحب البيت المنهار حديثه قائلًا: "إحنا مش عاوزين حاجة من حد غير حقنا.. الماسورة اللي ضرّتني النهارده، هتضر غيري بكره، لازم المسؤولين عن الكارثة يتحاسبوا؛ اتهمت شركة مياه الشرب بالإهمال والخراب، في محضر رسمي، فهي لم تسأل عن الصيانة منذ 5 سنوات وتعتمد على خامات رديئة للمواسير".
قيام الليل

"قيام الليل أنقذنا من الموت والمياه دخلت علينا زي الفيضان".. كانت تلك أولى الكلمات التي خرجت من فم الحاجة "نفيسة البحراوي" والدة "رضا شعبان"، وهي تروي لنا كيف تحولت لحظة خشوعها بين يدي الله إلى صرخة إنقاذ أنقذت بيتها وأحفادها من الغرق.
بصوت مبحوح وهي تلوّح بيديها المرتجفتين قالت: "العيال كانوا بيعوموا على المساند وهما نايمين.. مجرد ما طلعنا من البيت وقع على طول".

قالت والحزن يعلو صوتها: "الصلاة والدعاء اللي نجوني ونجوا ولادي، اتفاجأت أثناء الصلاة بفيضان وليس مجرد مياه، صرخت: يا مين يغيثنا، يا ناس الحقونا، الدار هتقع علينا.. كلهم كانوا نايمين صحيوا مفزوعين والمياه تزيد والناس تصيح، الصراخ ملأ البلد كلها.. خرجنا من البيت بأعجوبة بفضل ربنا ثم مساعدة الأهالي، وأول ما خرجنا على الشارع بعد أقل من نصف ساعة انهار البيت".

وتابعت باكية: "فضلت أقول: البيت وقع يا ناس.. يخلف علينا ربنا".. كان باقي العشا لسه في الأواني: اللحمة والبط، والفريزر تحت الأرض، والغسالة جديدة اتطبقت، ومفارش العروسة حفيدتي فرحها في شهر 11 كانت تحت الأنقاض.. عريسها حاجز وجهّز كل ترتيبات الفرح ومش هنعرف نأجل، بس هنعرف نعوض كل ده إزاي وامتى؟".
واختتمت: "حياتنا ومعيشتنا اتهدت في غمضة عين.. مبنعرفش ننام كويس ودايما قاعدين خايفين.. البيت ده قعدنا فيه شهر.. سنة.. وبعدين! هنتشرد في الشوارع، ليه المسؤولين ساكتين ومصيرنا مجهول حتى اليوم؟".
التقطت أطراف الحديث "حبيبة" 20 عامًا، عروس نوفمبر، والتي حكت لنا عن أحلام التهمتها الأنقاض قائلة: "مش عارفين نستوعب اللي حصل كأننا كنا في كابوس.. طلّوعنا بملابس البيت، كل حاجة راحت في لحظة.. وقلت لبابا مش هتجوز علشان مشيلوش الهم وقال لي: الفرح في ميعاده".
وأضافت: "نفسي أفرح زي أي بنت، حاليًا أمر بفترة تختلط فيها مشاعر الخوف من التشرد وضياع الحق في وقت من المفترض أن أعيش فيه أجواء الاستقرار".

بين الشروخ والثعالب
ومن قلب بيت آخر لم يتبقَّ منه سوى غرفة مائلة وحيطان متشققة، قابلت "محررة الوفد" السيدة "حمدية عبدالله" وهي تحتضن رضيعها تتحدث بعيون غارقة في الدموع وبملامح أمٍ أثقلتها الأوجاع قائلة: "كل ما يظهر شرخ في الجدران نطلع نجري أنا وعيالي بره.. ممكن باقي البيت يقع علينا في أي لحظة، بس هنروح فين؟".
خرجت منها الكلمات كطلقات رعب اختصرت حال أسرة باتت تسكن بين الشروخ ومطاردة الثعالب.

وأضافت "حمدية" وهي تروي تفاصيل يوم الكارثة: "كنت عند جماعتنا، اتصلوا عليّ وجيت من عند أهلي الفجر.. ملقيناش مكان نقعد فيه، فاضطريت أفضل بنفس البيت اللي اتشقق ووقع جزء منه، وقاعدين في أوضة واحدة باقية أنا وأربعة أطفال: 13 سنة و10 سنين و9 سنين ورضيع"، وكأنها تسكن مقبرة معلقة فوق رؤوس أبنائها.
وحكت بمرارة عن معاناتهم مع الوقت: "الجمعية الشرعية قالت هيدفعوا لنا إيجار بيت شهرين.. طيب وبعد الشهرين؟ هننزل الشارع؟".. ثم تابعت بصرخة أم: "التعالب دخلتلنا البيت، أوضة النوم والخشب اتدمروا، الأرض اتشققت والحيطان فكّت.. احنا عاوزين حلول ملموسة مش وعود، عاوزة سكن يأويني أنا وولادي.. ومحافظ الجيزة فين من كل اللي حصلنا؟!".

خراب وشتات
"الخراب فرّقنا.. مراتي عند أهلها وأنا في الورشة".. بكلمات تقطر وجعًا بدأ فهمي رجب فهمي الشهير بـ«مارادونا»، عامل زجاج حديثه مع "الوفد"، ليلخص مأساته في بيت تحوّل إلى أطلال، وأسرة تمزقت تحت ركام الإهمال.
واستعاد لحظة البداية قائلًا: "وقت وقوع الكارثة جريت على عربيات الكسح مفيش حد رضي يجي، وسكرتير الوحدة رد عليّ: (الوحدة هتعملكوا إيه الساعة 3 الفجر!).. كأن حياتنا لا تساوي شيئًا".
مشهد لا يُنسى
بصوت مبحوح من كثرة الصراخ والركض خلف النجاة، أضاف: "الأهالي هم اللي سيطروا على انفجار الماسورة.. وقفنا صفين زي الجنود، نكسح المياه بالجراكن.. مشهد عمره ما يتنسي.. مفيش ماسورة 4 بوصة على بعد مترين من المحبس العمومي تقدر تستحمل الضغط؟".
ثم أخذ يصف الخراب الذي التهم بيته: "مكان المحبس العمومي لحد دلوقت مفتوح.. وقالولنا لموا من كل بيت (50 جنيهًا) علشان يقفلوه! لولا الطرنش اللي عند البيت كان زمانه وقع".

وعن حضور المسؤولين، قال بمرارة: "الوحدة المحلية لما جت تعاين كانوا خايفين يدخلوا البيت! قالولي عاوز ترميم ولا إزالة؟ وفي الحالتين كله على حسابك.. المحافظ عارف بحالتكم".
ثم أطلق تنهيدة طويلة واختتم: "أنا دلوقتي عايش في الورشة.. عملت أوضة وعرّشتها وحمام، ومراتي قاعدة عند أهلها، وأنا هنا مستني قرار إزالة كأنه حكم بالإعدام.. كل اللي طالبه يتسهلي التراخيص عشان أرجع أبني وأعيش آدمي مع عيالي".


انتظار السقوط
ودخلت زوجته "مروة عيد" على خط الأزمة قائلة: "البيت اللي كنا بنعمرّه بقى غير آمن خايفين ندخله أو حتى نمر بجانبه، الحمام وقع، والجدران اتشققت، والأرض هبطت والمياه غرقت كل حاجة، وتلفت العفش، الولاد مرعوبين.. خدتهم وروحت عند أهلي وهو في ورشته دي عيشة؟ الجيران اللي جنبنا اللي بيوتها متضررتش سابوا البيوت ومشيوا خافوا حيطة تقع عليهم.. كلنا عايشين على أعصابنا".

موت مؤجل
"بننام على حصيرة في مدخل البيت تحت السما مكشوفين والشتا داخل علينا ومش لاقيين حتى سقف يسترنا".. بهذه الكلمات الخانقة بدأت الحاجة فاطمة حسن 50 عامًا روايتها لـ"الوفد"، وهي تحتمي بابنتها وحفيدتها في بيتٍ متصدّع ينتظر سقوطه في أي لحظة.
حكت والدموع تخنق صوتها: "البيت كان فيه شروخ قبل انفجار الماسورة.. لكن بعد الكارثة الشروخ اتفتحت والحيطان ريّحت.. بقينا نسد الفتحات بالقماش علشان الحشرات ما تدخلش علينا".

وأضافت: "مفيش مكان نقعد فيه، خرجنا الأجهزة كلها برّه زي أي حاجه مالهاش قيمة.. البلاط نفسه بقى يرشح ميّه.. والجدران بتفك من كل ناحية.. إحنا مش عايشين، إحنا قاعدين على أنقاض الموت.. متشردين جوه بيتنا.. خايفين في كل لحظة يقع علينا.. ومفيش في إيدينا حاجة".


وصرخت بنبرة يائسة: "لما جت الجمعية الشرعية تعاين.. قالوا مش متضررين! طب نستنى البيت يقع علينا ونموت عشان يحسوا بينا؟ لو عندي مكان تاني كنت سبت البيت يقع وارتحت.. بس معيش فلوس ولا عندي حتة أروحها.. مصيرنا مجهول وحياتنا واقفة على الخيط".
أهوال
واستمعت "الوفد" للشاب "سعيد أحمد الجندي"، أحد شهود العيان على الكارثة، الذي بدا عليه الارتباك وهو يسترجع تفاصيل تلك الليلة المروعة، حيث قال بصوت متأثر: "صحيت على صويت مرعب.. جريت على طول وكل الشباب المتواجدين في المنطقة والمناطق المجاورة ننقذ الأهالي وسط الصراخ والمياه اللي غرقت كل حاجة، شيلنا الأطفال في حضنّا وجرينا بيهم بره البيوت"، مضيفًا: "كنا بنشيل الميه بالجراكن ونحاول نسيطر، وروحت صحيت فنيين الصيانة من بيوتهم.. جم بعد ساعة كاملة من التبليغ، أي بعد ساعتين من الانفجار، وساعتها كنا إحنا شغالين لوحدنا".

وتابع بلهجة مليئة بالذهول: "الموقف كان مرعبًا.. فيضانات فجأة و بيوت بتتهد قدام عينينا.. حسيت إننا في عالم تاني معزولين.. المشهد مهيب.. ستات تصرخ وأطفال تبكي والناس تجري كأنها أهوال القيامة".
شركة مياه الشرب
حاولت "الوفد" التواصل مع شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالجيزة، للحصول على رد رسمي يوضح أسباب الكارثة ومسؤولية الشركة عن إصلاح الأضرار الجسيمة التي لحقت بالأهالي، لكن دون جدوى.
لتبقى الأسر المتضررة عالقة بين جدران متشققة ومنازل مهددة بالسقوط، تبحث عن مأوى، وتنتظر كلمة إنصاف من المسؤولين لم تأتِ بعد.. من يحاسب على خراب البيوت وأحلام الأسر؟ ومن يوقف نزيف الإهمال قبل أن تتكرر الكارثة؟