من حضن الأمان إلى مسرح الجريمة
تصاعد الجرائم الأسرية يهدد استقرار المجتمع

بعد مذبحة نبروه.. أب يستدرج طفلتيه ويقتل إحداهما فى الإسكندرية
استشارى نفسى: المخدرات و«انحطاط الدراما» وغياب التماسك المجتمعى وراء الظاهرة
تصاعدت جرائم العنف الأسرى داخل المجتمع المصرى خلال الفترة الأخيرة بشكل مرعب أصبحت معه مقولة «الدم بقى ميه» واقعية على نحو يُنذر بكارثة مجتمعية، مثل قتل الزوج لزوجته أو الأب لأبنائه ليست مجرد قصة خيالية بل باتت سيناريو واقعياً دخيلاً على المجتمع المصري، جريمة تلو الأخرى تختلف ظروفها ومكانها وأسبابها ما بين الميراث أو الاكتئاب وظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية معقدة، ولكن يبقى القاسم المشترك «الخلافات العائلية» التي جعلت سلوكيات العنف حاضرة فى المجتمع، إذ تنسجم كل تلك الأسباب مع بعضها بعضاً بمقادير متباينة فينتج عنها الخلل أو التحلل الأخلاقى الذى يتجسد عنفاً وفقاً لخبراء علم نفس.
آخر تلك الجرائم الاسرية المتكررة يوميًا فى حياتنا، وقعت فى محافظة الإسكندرية حيث أقدم أب على قتل طفلته وإصابة الأخرى بسبب خلاف مع زوجته وانتحر، فلم تمر أيام قليلة عن الجريمة المروعة التى أبكت العيون وأدمت القلوب فى محافظة الدقهلية وتحديدا فى منطقة نبروه، بعدما أقدم أب على قتل أولاده الثلاثة والشروع فى قتل زوجته التى سدد لها عدة طعنات متفرقة كادت أن تودى بحياتها وترقد فى المستشفى تصارع الموت، وتخلص بعده الأب القاتل من حياته بإلقاء نفسه أسفل عجلات أحد القطارات تتناثر أشلاؤه على القضبان تاركاً وراءه جريمة بشعة لن تمحى من الذاكرة، واستمراراً لسلسال الدم داخل النسيج الأسرى شهدت منطقة العامرية غرب محافظة الإسكندرية حادث قتل بشعاً بعد أن أنهى أب حياة ابنته وأصاب الأخرى، ثم قام بالتخلص من نفسه بالطعن بالسلاح الأبيض، وتحمل هذه المأساة تفاصيل مرعبة، والتى بدأت فى إحدى مناطق العامرية غرب الإسكندرية، ما بين الجريمتين خيط وقاسم مشترك وهو العنف الأسرى الذى يستدعى التفتيش فى أسبابه وملابساته ومواجهة هذا الجرائم الغريبة على طبيعة المجتمع المصري.. تبدلت ملامح الهدوء إلى مأساة، حين تحولت الخلافات الأسرية إلى جريمة هزّت القلوب وأبكتها قبل أن تهز الجدران.
فى مساء 20 سبتمبر، استدعى أب ابنتيه الصغيرتين إلى شقته بحجة إعطاء حقيبة مدرسية للطفلة الصغرى، استعدادًا لعام دراسى جديد، ولم يكن يدور بمخيلتها أن تلك الزيارة لشقة والدهما ستكون الأخيرة فى حضن الأب.
منذ أغسطس 2024، انفصلت الأم «هـ.ب.ع» عن زوجها بسبب خلافات أسرية بينهما، تتعلق بسلوكه غير المقبول ونزواته الشاذة، حتى حُكم عليه عرفيًا بترك بيت الزوجية، ومنذ ذلك الوقت، عاش الرجل فى عزلة، محمّلًا بمرارة الخلاف ورغبة يائسة فى استعادة زوجته التى تركته وأقسمت ألا تعود إليه مرة أخرى.
فى يوم الواقعة، اتصل بالأم مهددًا: «هترجعيلى وإلا أقتل البنات» ظنّت أنه يبالغ، وأنه لن يقدم على ما قال فكيف يفعل ذلك بابنتيه فلذات كبده، لكن بعد انتهاء مكالمته مع طليقته تحول تهديده لها إلى حقيقة وبدأ فى تنفيذ كلماته بإنهاء حياة ابنتيه الصغيرتين.
بدأت المأساة مع الابنة الكبرى «رويدة» ذات الـ16 عامًا بعدما شاهدت والدها متجهاً نجو المطبخ وعاد بعد ثوان يحمل فى يده سكيناً كبيرة ومتجها ناحيتها ويمتلئ بالغضب، حاولت الفرار نحو باب الشقة، لكنه لحق بها ممسكًا بالسكين، طعنها عدة مرات فى رقبتها حتى سقطت غارقة فى دمائها، أما شقيقتها الصغرى «رقية» ذات الـ10 أعوام، فكانت تبكى وتترجى أباها أن يتوقف، لكنه لاحقها بطعنات أصابت رقبتها وكتفها ووجهها واستطاعت أن تفلت منه بأعجوبة وتستغيث بالجيران، بينما لفظت شقيقتها الكبرى أنفاسها الأخيرة.
أيقن أنه لم يعد هناك عودة، غرس الأب السكين فى جسده، مرات عديدة فى الصدر والرقبة والبطن، نُقل إلى المستشفى بين الحياة والموت، لكنه فارق الحياة متأثرًا بجراحه، لتغلق فصول القصة بجثمانين فى المشرحة، وطفلة مصابة لا تزال تروى تفاصيل المأساة من فوق سرير المستشفى.
الأم المكلومة، التى رفضت الانصياع لضغوط زوجها وعادت لتحمى نفسها وبناتها من تصرفاته، وجدت نفسها أمام فاجعة لم تكن فى الحسبان «ابنة قُتلت بيد أبيها، وأخرى تصارع الألم، وزوج اختار أن ينهى حياته بعد أن حطم أسرتها للأبد».
ومع تزايد وتصاعد جرائم العنف الأسرى والتناحر والاقتتال داخل العائلة تواصلت «الوفد» مع خبراء نفسيين للبحث عن أسباب انتشار جرائم العنف الأسرى والاقتتال داخل الأسرة، وكيفية التصدى لمثل تلك السلوكيات العدوانية التى تهدد استقرار المجتمع.
قال الدكتور جمال فرويز أستاذ الطب النفسي، إن تصاعد جرائم العنف العائلية يعود لأسباب عدة من بينها زيادة حدة المشكلات الاقتصادية والضغوط التى يعانى منها البعض، وضعف العلاقات الاجتماعية مع العائلة والأهل والجيران على عكس ما كان يحدث فى الماضي، موضحا أن حوادث العنف الأسرى والقتل تصرفات غريبة على المجتمع المصري، حيث أصبح يشهد انهيار السلوكيات والأخلاقيات المجتمعية الراسخة، وذلك بسبب انتشار المخدرات وانحطاط الأعمال الدرامية التى تحرض على العنف، إضافة للانفلات الذى تشهده مواقع التواصل الاجتماعى وتدعم الكثيرين ممن يعرفون بــ«البلوجرز» نشر المحتوى المخالف لقيم وعادات المجتمع ومشاهد العنف والبلطجة والمحتوى الذى ينشر الفسق والفجور خلال بعض الأعمال الدرامية والسينمائية وبطبيعة الحال قد يقلده بعض الأشخاص وخاصة الشباب.
ونوه استشارى الصحة النفسية إلى أن من بين أسباب انتشار العنف داخل المجتمع أيضا قلة الوازع الديني، وشيوع مفهوم التدين الشكلى المرتكز على المظاهر الدينية دون العمل بجوهره، وربما الضغوط الاقتصادية، موضحا أن العنف الأسرى يسبقه عادة تاريخ مرضى للشخص يعانى فيه من خلل بالشخصية وقد يكون مفاجئاً، مشيرا إلى مرتكبى هذه الجرائم قد يتسمون بالعدوانية والعنف، والعصبية والتهيج والتوتر والغضب الشديد، لا يمكن أبدًا توقع الخطوة القادمة منه، ولا كيفية تصرفه أثناء نوبة العنف أو الغضب، لذا هذه النوعيات من الشخصيات تحتاج لحكمة والتكنيك النفسى السليم عند دخولهم فى نوبة عنف، مؤكدا أن بعض الآباء بحاجة إلى دورات تدريبية وتأهيلية على كيفية التعامل مع الأبناء، واستخدام الوسائل المناسبة للعقاب، وتدريبهم على استيعاب مشكلات الأجيال الجديدة ومواكبة عصر التكنولوجيا.
وأوضح «فرويز» أن الشخص الذى يقدم على ارتكاب مثل هذه الجرائم المروعة يكون فاقد الشغف فى الحياة وانعدام الرغبة فى كل شىء، فإن مثل هؤلاء الأشخاص يجدون الهروب والملاذ من هذا السبيل بالموت، فيقدم على قتل أولاده وأحبابه، مؤكدا أنه مهما كانت الأسباب والدوافع لا تبرر قتل النفس وإزهاق الأرواح ، وشدد على ضرورة أن يكون رب الأسرة شخصاً متزناً قادراً على مواجهة أى خلافات بهدوء دون تعصب، وضرورة تقوية الدوافع والوازع الدينى.
وشدد على ضرورة توعية المجتمع والأسرة والعودة إلى الثقافة المصرية الراسخة، من خلال عقد ندوات مكثفة فى المدارس والجامعات والمساجد والكنائس لتوعية الأسر والمقبلين على الزواج، ونشر حملات التوعية على شاشات التليفزيون ووسائل الإعلام المختلفة لتوطين العادات والتقاليد والقيم المصرية لزيادة الوعى الدينى والثقافى لدى الشباب، ونشر القيم الدينية والثقافية الصحيحة فى المجتمع.