بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

قضية ورأى

إن خافتك الحكومة.. خاف منها

يقول الأجداد: «اللى يطول دقن القاضى، يحلقها».. ويقولون أيضًا: «إن خافتك الحكومة، خاف منها».

يلخص المثلان، إرثًا بعيدًا وعميقًا من فقدان الثقة وربما «العداء»، بين المصريين والسلطة المركزية، على مر العصور.

فذقن القاضى، كانت رمز هيبته وعدالته.. ومن يصل إليها إما أنه يستطيع حلقها بنفوذه أو ماله، أو أن القاضى لا يستحق أن يربى لحيته أصلًا.

كما أن خوف الحكومة من شخص أو مجموعة، تعنى أن رد فعلها سيكون انتقاميًا وقويًا لاسترداد هيبتها.. فلا حكومة دون هيبة.. ولذلك يجب الخوف منها إذا خافت منك.

والثقة بين الشعوب والسلطات السياسية ليست رفاهية اجتماعية، بل هى شرط أساسى لاستقرار الدول وتقدّمها.. وكلما زادت هذه الثقة، زادت فرص النجاة.. والعكس صحيح.

فى مصر، مرّت علاقة الشعب بالسلطة بتحولات كبيرة منذ عهد الفراعنة وحتى مصر الحديثة، تراوحت بين الثقة والشك، والولاء والتمرد والثورة.. وربما هذا هو ميراث العداء بين الحكومات والشعب المصرى.

فقد تغيرات الحكومات، لكن الفلاح المصرى لم يتغير.. بل ورث أبناؤه إرثًا كبيرًا من خبرة وفن التعامل مع الحكومات.. أى حكومات وطنية كانت أو غازية أجنبية.

إذا حسبنا فترات احتلال مصر، سنجد أنها تنافس فى طولها فترات استقلالها.

مثلا إذا اعتبرنا أن الخلافة الإسلامية والدول المتعقابة ومنها الدولة الأيوبية والمماليك وأسرة محمد على باشا ليسوا احتلال، فهناك 100 سنة عاشتها مصر تحت احتلال الهكسوس، و132 عامًا تحت الاحتلال الفارسى الأول والثانى، و300 سنة تحت حكم مقدونى يونانى، و670 سنة تحت احتلال رومانى بيزنطى، و281 سنة تحت تحت حكم عثمانى مباشر، و3 سنوات تحت حكم فرنسى، وأكثر من 70 سنة تحت حكم بريطانى.

أى أن المجموع يقترب من 1556 سنة احتلالًا مباشرًا.

حتى فى غالبية سنوات الاستقلال ومنها سنوات دولة المماليك، كان النظام يقوم على جباية الضرائب من الفلاحين لتمويل الجيش والإدارة. ورغم أن المماليك حافظوا على الأمن نسبيًا، فإن ثقل الضرائب وغياب التمثيل السياسى ولّد شعورًا بأن السلطة تستنزف المجتمع.

مع الحكم العثمانى، تكررت هذه الصورة؛ إذ كانت مصر ولاية تابعة لمركز الخلافة، تُدار أساسًا لتأمين موارد مالية وغلال للدولة العثمانية، دون إشراك حقيقى للمصريين فى القرار، ما خلق أساسًا نفسيًا عميقًا من الريبة فى أى سلطة مركزية.

لكل ذلك، لم أندهش من التشكيك الجماعى فى قضية سرقة الإسورة الفرعونية.

آلاف التحليلات والتخيلات، الرافضة للرواية الرسمية، والتى تأتى ضمن ميراث التشكيك فى السلطة على مر العصور.

لا ثقة فى جهاز الأمن الذى عكف رجاله على حل خيوط الجريمة فى زمن قياسى، وكأننا نعاقبهم على جهودهم، وكأن القضية كان يحقق فيها ضابط واحد وليست أجهزة كاملة وعشرات الرتب الأمنية والمعلوماتية.

نستبق بتحليلاتنا تحقيقات النيابة وكأنه لا توجد نيابة، ونستبق حكم القضاء وكأنه لايوجد قضاء، ونرفض اعتراف المتهمين مع أنه سيد الأدلة، ونشكك حتى فى الفيديو باعتبار أن الأسورة المسروقة ستظهر فى دولة أخرى بعد حين، وكأنه لايوجد قانون دولى يحاسب مثل هذة الحالات.

حتى وزن الأسورة الـ37 جرامًا، أصبح 600 جرام فى أخبارنا ومخيلتنا لإذكاء و«حبكة» القصة الخيالية وكيف أنها بيعت بثمن بخس.

وتشكك الناس فى السلطة فى مصر ليس ظاهرة طارئة، بل نتاج قرون من التجارب المعقدة بين الشعب والحاكم.

هناك أسباب طبعا منها الفساد الإدارى، والقمع السياسى، والجهل، وغياب الشفافية، والإخفاق فى إدارة الأزمات.. وكلها عوامل تراكمت لتشكّل فجوة ثقة.

فى الوقت نفسه، الثورة المعلوماتية وسرعة انتشار الأخبار جعلت أى خطأ حكومى أكثر وضوحًا للرأى العام، وربما النقد أقسى، لدرجة التشكيك المسرف فى كل شىء.

يفرح كثيرون بالتشكيك «عمال على بطال» فى السلطة دون دراسة ووعى، ويغفلون أن هذا التشكيك يلقى الخوف فى قلب السلطة ويزيد رد فعلها.. فهم يغفلون أن الإسراف فى النقد والتشكيك سيضر الجميع.. فالحكمة لا تقول «إن خافتك الحكومة واجهها» وإنما تقول: «إن خافتك الحكومة، خاف منها».