بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

رحلة «ألف ليلة وليلة» إلى الغرب

هل خطر لك يومًا أن تطير على بساط الريح، تعبر المدن والبحار، بينما شهرزاد تهمس فى أذنك حكاياتها المدهشة؟ بالنسبة لى، لم يكن هذا محض خيال عابر. فمنذ طفولتى وأنا أعيش مع «ألف ليلة وليلة»، أتجوّل بين قصورها وكهوفها، أرى الجان يخرجون من المصابيح، وأرافق سندباد فى مغامراته السبع.

حين انتقلت إلى كندا، حملت الليالى معى، وصرت أرويها لأطفالى: عن على بابا وكلمة السرّ، وعن علاء الدين ومصباحه، وعن معروف الإسكافى. حتى صارت هذه القصص جزءًا من حياتنا اليومية. وكنا نمزح مع جيراننا الكنديين بسؤال طفولى “are you a human or a genie?”: «إنت إنس ولا جِن؟»، فيبتسمون ويردّ بعضهم بحذر: «It kind of depends»، كأنهم يخشون أن يكون للجواب تبعات سحرية!

فى محاضراتى الجامعية، كنت أروى لطلابى كيف أن ترجمة أنطوان غالان عام 1704 فجرت دهشة أوروبا. ففى زمن الأنوار والعقلانية، قدّمت «ألف ليلة وليلة» عالمًا من التحوّل والسحر والمصائر الغريبة. فجأة، وجد القارئ الأوروبى نفسه أمام نصوص تحتفى بالخيال، وتُخضع قوانين المنطق للعب الحكاية. وغوايات السرد.

ومنذ ذلك الحين، غدت الليالى مصدر إلهام لكتّاب وأدباء كُثر: وردزورث وتينيسون التقطا من الشرق بريق الخيال، إدغار آلان بو رسم عوالم أقرب إلى كوابيس الجن، بينما صبغ ديفو وستيفنسون مغامرات روبنسون كروزو وجزيرة الكنز بروح الأسفار والترحال كما نجد فى رحلات سندباد. وفى القرن العشرين، أعاد تولكين إحياء عناصرها فى سيد الخواتم، مثبتًا أن الخيال الشرقى ظلّ يسكن وجدان الغرب.

أما فى الثقافة الشعبية، فقد صارت الشخصيات أيقونات عالمية: سندباد وعلاء الدين وعلى بابا غزوا المسرح والأوبرا والسينما. من مغامرات الأمير أحمد، أول فيلم رسوم متحركة طويل، مرورًا بـلص بغداد، وصولًا إلى «علاء الدين»، نسخة ديزنى التى أسرت طفولة العالم، واصلت الليالى ابتكار نفسها. غير أن هذه الشعبية غذت أيضًا الصور النمطية عن الشرق الغامض، كما نبه إدوارد سعيد فى كتابه عن الاستشراق، حيث يلتقى السحر بالتحيّز، والفضول بالخيال المشوَّه.

وهكذا، يتبيّن لنا أن سحر ألف ليلة وليلة لم يَذوِ، بل تبدّل شكله، وانتقل من مصابيح الزيت إلى شاشات الهواتف. فاليوم، حين نضغط زرًّا صغيرًا، ينفتح أمامنا عالم موازٍ كما لو كنا نردد «افتح يا سمسم!» من جديد. ويخرج الجنّى العصرى من قلب الخوارزميات، حاملًا لنا ما نشتهى من مقاطع وصور وأغانٍ و«تيك توك شورتس»، يلبّى رغباتنا ببرود آلى، لكنه فى الوقت نفسه يستدرجنا إلى الأسر. أمّا الحواسيب والأجهزة الموسيقية، فهى كائنات نصف حيّة تلازم أنفاسنا وتشاركنا صمتنا وضحكنا، كأننا نعيش فى ليالٍ رقمية، لا تقلّ سحرًا عن ليالى بغداد، غير أنّها تُخفى وراء ألقها سؤالًا مقلقًا: أَنحن السحرة الذين أطلقوا الجنّى من قمقمه، أم المسحورون الذين لا مهرب لهم من قبضته؟