بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

على من نطلق الرصاص؟


في مشهدٍ عبثي لا يخلو من مرارةٍ ساخرة، نقف نحن العرب أمام سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يختزن خلفه جبالًا من الخيبات: على من نطلق الرصاص؟
هل نوجهه إلى العادات والتقاليد التي كبّلتنا قرونًا طويلة حتى تحولت من موروثٍ اجتماعي إلى أغلالٍ تلتف حول أعناقنا؟ أم نطلقه على إرثٍ قديم ورثناه دون تمحيص، فأصبح مثل جثةٍ محنطة نحملها في مسيراتنا الثقافية ونباهي بها بينما هي عائق أمام تقدمنا؟ أم نصوّبه نحو زمن الرأسمالية المتوحشة التي حولت كل شيء إلى سلعة، من رغيف الخبز حتى شرف الكلمة؟ أم على الفهلوة، تلك الفلسفة المحلية التي رُفعت إلى مرتبة "العبقرية"، فصارت بديلاً عن النظام والجدية، وجعلت الفوضى سيد الموقف؟
أسئلة لا تجد إجابة واحدة، لكنها جميعًا تفضي إلى نتيجة مريرة: أننا نُصوّب الرصاص في النهاية إلى أنفسنا، ونمارس قتلًا بطيئًا لهويتنا وعقلنا الجمعي.
-- ١- الرصاص على العادات والتقاليد: حفلات الخراب

من يتأمل واقعنا الاجتماعي يكتشف أن كثيرًا من الأزمات ليست من صنع "المؤامرات الخارجية"، بل من إنتاج أيدينا. فحفلات الزواج تحولت إلى مسابقات في التبذير، حيث يُقاس قدر العريس بمدى قدرته على إشعال "مهرجان إنفاق" يرهق عائلته لسنوات.
في قرى مصر، يكاد الشاب لا يستطيع الزواج إلا بعد أن يبيع أهله قطعة أرض ورثوها عن أجدادهم. وفي السودان الذي أنهكته الحرب والدمار، لا يزال بعض الأهالي يصرون على "المهر الغالي" والولائم، كأن الخراب لم يعلّمهم شيئًا.
أما سرادقات العزاء، فقد غدت ساحات للمباهاة أيضًا، يتنافس فيها الأحياء على من يمد خيمته أبعد ومن يقدّم أطباق اللحوم أكثر. في لبنان الغارق في الديون، ما زال مشهد "الدفن على الطريقة الفخمة" حاضرًا رغم أن الكهرباء مقطوعة والخبز على البطاقة.
نطلق الرصاص هنا على أنفسنا، لأننا صنعنا ثقافة اجتماعية تُرهق الفقير وتُكرّس الطبقية، ثم نتباكى على ضيق الحال وارتفاع الأسعار. العادات تحولت إلى عبء يبتلعنا، لكننا ما زلنا نقدّسها وندافع عنها كأنها وحي منزل.
-- ٢- الرصاص على الإرث القديم: الجثة المحنطة

الإرث الثقافي والفكري، بدل أن يكون منطلقًا للتجديد، صار أداة للجمود. نحتفي بالنصوص القديمة، لكننا لا نقرأها قراءة نقدية. نرفع شعارات الماضي، لكننا لا نفهمها ولا نطبق منها إلا ما يُكرّس الخضوع.
نحن أمة تعيش على أطلال "الأمجاد"، حتى تحولت تلك الأطلال إلى جثة محنطة. نحملها في مسيراتنا الفكرية والسياسية، ونزين بها صالونات النخبة، بينما هي تعيق كل محاولة للانطلاق.
هيكل، في كتابه المال والسياسة، قال منذ عقود إن الفساد يتجذر في بنياننا كأنه جزء من تركيبتنا. لم نأخذ التحذير بجدية، فاستيقظنا اليوم لنجد أن ما كان نبوءة صار واقعًا: من فضائح عمولات السلاح في الستينيات، إلى فضائح الخصخصة في التسعينيات، وصولًا إلى ما نراه اليوم في صفقات الغاز والكهرباء والموانئ. الفساد صار مؤسسة رسمية، لا حالة عابرة.
--٣- الرصاص على زمن الرأسمالية المتوحشة

في زمن العولمة المتوحشة، صار كل شيء للبيع: التعليم، الصحة، الإعلام، حتى الضمير.
في مصر ارتفعت أسعار الدواء ثلاثة أضعاف، بينما المستشفيات العامة تنهار. في العراق وسوريا، صار النفط يُباع لمن يدفع أكثر، حتى لو كان خصمًا أو محتلًا. في تونس والمغرب، تحولت المدارس إلى سوق للدروس الخصوصية، والتعليم نفسه إلى سلعة.
الأسواق تحكم السياسة، والشركات تتحكم في القرارات الكبرى، والبورصة صارت أكثر تأثيرًا من البرلمان.
هذه ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل أزمة قيم. ففي زمن الرأسمالية المتوحشة، لم يعد الإنسان هو الغاية، بل أصبح مجرد وسيلة لتحقيق أرباحٍ لا تنتهي.
--٤- الرصاص على الفهلوة والفوضى

"الفهلوة" مصطلح مصري الأصل، لكنه صار فلسفة عربية بامتياز.
هي أن تلتف على القانون لا أن تطبقه، أن تبحث عن "الواسطة" بدل النظام، أن تفتخر بقدرتك على "الخروج من المأزق" لا بقدرتك على التخطيط.
انظروا إلى مشاهدنا اليومية:

بناء مخالف في حارة ضيقة بلا تصاريح.

تاجر يحتكر السلع ثم يخرج على الناس بوجه "فاعل الخير" يوزع كراتين رمضان.

إعلامي يلهث وراء "تريند" فضيحة، ويترك قضايا الأمة الكبرى.

والنتيجة: مجتمعات تدار بالفوضى، حيث الفضائح مادة إعلامية يومية. من "تسريب امتحانات الثانوية" في مصر، إلى "فضائح القروض" في لبنان، إلى "ملفات الفساد" في تونس والعراق، صرنا نعيش على الفضائح كما يقتات المريض على مرضه.--

٥-الرصاص على الاستحقاق النيابي: الكوميديا السوداء،،،
مع كل موسم انتخابي، تخرج الجموع من بياتها الشتوي الطويل. تتبدل الجلود وتُرفع الرايات: "عاش الفتى مهران، السياسي القادم إلى البرلمان".
في مصر، تتزين القرى بالسرادقات واللافتات، كأننا في مهرجان شعبي. في العراق، تُوزع بطانيات وزيت وسكر مقابل الأصوات. في تونس، يعلو صوت الشعارات الثورية ثم يتبخر في اليوم التالي.
تتحول القرى والمدن إلى مسرح كرنفالي، الولائم تُقام، والوعود تُوزع كأوراق يانصيب، والجميع يعرف أن الحظ لن يبتسم إلا للمتنفذين. وحين تُعلن النتيجة، يعود المشهد إلى البيات الشتوي لخمسة أعوام قادمة، حتى يحين موعد "المسرحية" التالية.
إنها كوميديا سوداء، حيث يعرف الممثلون والجمهور أن النهاية محسومة، ومع ذلك يتظاهرون بالتصفيق.،،،
٦- الرصاص على الواقع العربي أمام العدو الخارجي

لكن المشهد لا يكتمل من دون الحديث عن الخارج. عدو يتربص بنا، يقتل الطفل والحجر، ويحوّل سماءنا إلى ملعب مباح لكل جيوش العالم.
إسرائيل وحدها لا نعرف حدودها، تتأرجح بين حدود توراتية وتلمودية وحدود سياسية مرسومة بالنار والحديد.
غزة محاصرة بالجدران، والضفة مثقلة بالحواجز، والسماء مفتوحة للطائرات المسيرة والقواعد الأجنبية.
في السودان، تتنازع قوى إقليمية ودولية على الذهب والموانئ. في اليمن، البحر الأحمر صار ممرًا عسكريًا لا تجاريًا. في لبنان، الاقتصاد مرهون للبنك الدولي، والسياسة مرهونة لصراعات الإقليم.
من العراق إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، تحولت أراضينا إلى ساحات تصفية حسابات، بينما العرب مشغولون في حفلات انتخابية أو صراعات إعلامية على "من يملك الفضيحة الأكبر".
٧-الكوميديا السوداء: الرصاص على أنفسنا

الحقيقة المؤلمة أن الرصاص لا يُطلق حيث يجب. نُفرغ بنادقنا في صدور بعضنا، ونمارس الانتحار الجماعي ببطء.
نحن أمة تحوّلت إلى مسرح كوميديا سوداء:

نضحك على ارتفاع الأسعار ونحن نواصل حفلات البذخ.

نشكو من المؤامرات ونحن نصنعها بأيدينا.

نلعن الفساد ونحن نمارسه.

نتغنى بالوحدة ونحن نعيش التشرذم.

إنها مأساة تُضحك وتبكي معًا، مشهد لا يليق إلا بأمة فقدت البوصلة، وتركت الرصاص يتجه نحو صدرها بدل أن يتجه نحو عدوها.
في الهاية: لا عزاء للعرب،،

السؤال الذي بدأنا به يظل معلقًا: على من نطلق الرصاص؟
الحقيقة أننا أطلقناه بالفعل، لكن على أنفسنا. وما دمنا نعيش هذه المفارقة المأساوية، فلن نجد عزاء.
إنها الكوميديا السوداء في أبهى صورها، حيث الضحك ممزوج بالبكاء، وحيث المشهد العبثي يتكرر بلا نهاية.
لا عزاء للعرب، إلا إذا قرروا أخيرًا أن يوجّهوا الرصاص حيث يجب: نحو الجهل، الفساد، الفهلوة، والعدو الذي يتربص بالجميع....!! محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ،،