على فكرة
بحثا عن لحظة سلام
كنت أحسب أننى أمتلك من القوة والمنعة، ما يجعلنى فى مأمن من التداعى أمام اختبارات الحياة القاسية التى تفرضها ظروف عامة غير رحيمة وغير عادلة، وشدية القسوة والكآبة، ومثقلة بمشاعر القهر والخذلان والخوف، وأخرى خاصة لونتها لوعة فراق أحبة وأصدقاء أعزاء، بقتامتها وبانكسار الروح،كان آخرها رحيل الصديق العزيز «سليمان شفيق». هزمتنى نفسى التى اعتادت المعاندة فى مواجهة الشدائد، فصرت أبحث عن لحظات هدوء وسلام، تضمد جراحا نفسية هنا وهناك. أنقذتنى «فاتن حمامة» من يأسى حين قادنى جهاز الريموت كنترول إلى فيلمها الخيط الرفيع «المعروض على إحدى الفضائيات، فاستغرقنى تأمل النموذج الذى شكلته ظاهرتها الفنية التى امتدت نحو خمسين عاما، وأخذنى بعيدا عن خيبات الواقع وأحزانه.
خطفت «فاتن حمامة» قلوب عشاقها من المحيط إلى الخليج، من باب لم يستطع أحد آخر أن ينافسها فيه، باب البساطة والبراءة والتلقائية والصدق الفنى. حباها الله بصوت كصوت الكروان، وبوجه لا يقارن بمقاييس الجمال الصارخة، لكنه يتكامل فى تكوينه الرقيق، ليقدم لوحة فاتنة، لجمال وجه يخطف الألباب من فرط عاديته ودقة ملامحه وجاذبيته. مخرجها الأثير «بركات» عبر عن ذلك بقوله «وجهها هو الشعر، هو الموسيقى، لا مثيل له، ولا بديل عنه للتعبير عن المعانى التى أبغيها»..
لم يكن التمثيل بالنسبة لها شهرة ومالا وحضورا دائما فى قلب الأضواء فحسب، بل هو قضية تشغل تفكيرها ووجدانها، ومجتمعها. وحين تحمل من هى فى مكانتها فى قلوب الناس، وفى ساحة الإبداع، هذه القضية، فالتأثير الايجابى حاضر لا محالة. والأمثلة أكثر من أن تحصى. «آمنة» المحبة العاشقة والمتسامحة فى «دعاء الكروان» التى حملت على أكتافها إعادة طرح جريمة القتل ثأرا لقضايا الشرف فى السينما العربية، والحب الذى دفعها للمشاركة فى عمل سرى ضد الاحتلال فى «لا وقت للحب» ودعمها لقضية تعديل قانون الأحوال الشخصية لصالح النساء فى «أريد حلا» ودورها الشجاع الآسر فى فيلم «الحرام» ومساندتها لأجيال تالية من الممثلين والمخرجين، فى فيلمها «يوم مر.. ويوم حلو» للمخرج خيرى بشارة والسيناريست «فايز غالى» مع نخبة من الممثلين الشباب وعملها مع يحيى الفخرانى وداود عبدالسيد فى فيلمها الأخير «أرض الأحلام».
حصنت «فاتن حمامة» حياتها الخاصة ضد التلصص والثرثرة الفارغة، وآثرت أن تكون العلاقة المباشرة بينها وبين العالم، هو فنها وإبدعها.لم تشغل فاتن نفسها بمعارك صغيرة، ولم تتلفظ بكلمة أو جملة تسىء إلى أحد من زملائها، فى أى لحظة، على الرغم من أن بعضهم قد وجه إليها بعض هذه الإساءات. ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعى فيديو تتساءل فيه «مريم فخر الدين» باستنكار: لماذا تسمى فاتن حمامة سيدة الشاشة العربية وهل نحن خدمها؟ مع أن «فاتن» لم تسعَ يوما لإطلاق ألقاب على حضورها الأخاذ فى السينما العربية، كما فعلت غيرها، اكتفت بموهبتها الفذة الصادقة لتؤكد هذا الحضور، وكان الكاتب الصحفى «عبدالنور خليل» هو الذى أطلق عليها هذا اللقب.
ملأت فاتن حمامة حياتنا بالبهجة والرقة والعذوبة والمتعة الراقية والمسئولة. وقدمت عبر مسيرتها، التى يصعب اختزالها فى كلمات قليلة، نموذجا فنيا وإنسانيا وحياتيا، حين يفكر المرء فى الصورة المكتملة له، لا يستحضر سواه. كما صنعت من هذا النموذج، معيارا للتفرقة بين الفن الرفيع والآخر التافه والردئ، وليبقى هذا النموذج للجمال الفنى راسخا فى الوجدان الجمعى، ومتربعا على عرش القلوب.