استشراف الرئيس
فى المعاجم اللغوية، استشراف المستقبل تعنى التطلع إليه أو الحدس به، فى قمة مارس 2015 فى شرم الشيخ اقترح الرئيس عبدالفتاح السيسى إنشاء قوة عربية مشتركة بهدف حفظ وصيانة الأمن القومى العربى فى مواجهة تهديدات أمنية متصاعدة آنذاك- تحديداً- ما تعلق بخطر الإرهاب والفواعل المسلحة من الميليشيات والجماعات المتطرفة. لكن على ما يبدو، وضح جليا فيما بعد أن نظرة الرئيس كانت أبعد من ذلك، الرئيس السيسى كأنه كان يستشرف المستقبل عن حاجة الدول العربية لمنظومة أمن جماعية مع مراجعة وتحديث لماهية مفهوم الأمن القومى العربى.
فى قمة بغداد مايو 2025 عاد الرئيس مرة أخرى لاستشراف المستقبل، الرئيس قال نصاً: «وأكرر هنا، أنه، حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية». والرسالة هنا كانت أعمق من أن يتم اختصارها فى ربط الاستقرار بحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف. الرئيس السيسى كان يستشرف سلوكاً إسرائيلياً توسعياً، ونهجاً قائماً على غطرسة القوة، خاصة ما بعد التحول والتغير فى العقيدة السياسية والعسكرية الإسرائيلية ما بعد طوفان الأقصى أكتوبر 2023، والتى وجد فيها نتنياهو الفرصة والمبرر لإطلاق هذا التحول القائم على إعادة صياغة معادلات الأمن فى الشرق الأوسط، بما يعمل على تثبيت مشروعها كقوة مهيمنة، مشروع «إسرائيل الكبرى» الذى لا يكتفى بإدارة الصراع، بل يسعى إلى فرض إرادته على حلفاء وخصوم معاً.
فى عصر يوم الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 أغارت إسرائيل على العاصمة القطرية الدوحة، والرسالة الأعمق من استهداف قادة حماس تمثلت فى تصدير نموذج الردع الإسرائيلى: إسرائيل من خلال هذا الهجوم تؤسس لقاعدة تقول إنها تستطيع استهداف خصومها «أينما كانوا»، حتى فى دول تصنف كصديقة للغرب ولواشنطن وحتى لإسرائيل ذاتها، والرسالة واضحة، كونك تمتلك علاقات معى لا يمنحك حصانة، حتى لو كنت حليفاً استراتيجياً لواشنطن، وأن الحماية الأمريكية ليست ضمانة. لا حصانة لأحد فى مواجهة مصالح ومخططات إسرائيل التوسعية، خاصة مع ضعف رادع سياسى جماعى لدى دول المنطقة. وهو ما كان يتوجس ويحذر منه الرئيس السيسى حتى ما قبل عملية طوفان الأقصى، لأن كل سيناريوهات الفوضى فى المنطقة تخدم مصالح طرف واحد هو ببساطة إسرائيل.
فى القمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة وبعد أيام من العدوان الإسرائيلى عليها، وبعد أن تحقق حدسه، كرر الرئيس عبدالفتاح السيسى أولاً التحذير مما سبق استشرافه من «سلوك إسرائيلى منفلت، ومزعزع للاستقرار الإقليمى، من شأنه توسيع رقعة الصراع، ودفع المنطقة نحو دوامة خطيرة من التصعيد، وهو ما لا يمكن القبول به أو السكوت عنه». ثم أعاد الرئيس طرح الحل لمواجهة هذا الانفلات ممثلاً فى آلية ردع عربية جماعية، جزءاً من الرؤية المصرية حول الأمن القومى العربى، ومحاولة من مصر ورئيسها إعادة إحياء مفهوم وفلسفة «الأمن الجماعى العربى». وكما صرح الرئيس دون لبس أو تأويل «على نحو يحول دون الهيمنة الإقليمية لأى طرف أو فرض ترتيبات أمنية أحادية، تنتقص من أمن الدول العربية والإسلامية واستقرارها». فهل يستجيب العرب؟.