بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

ذكرياتى (١٩)

أحباء أفتقدهم

هناك أناس لا يمكن أن تُمْحَى صورتهم ولا مواقفهم من الذاكرة مهما تقدم العمر أو تزاحمت الأحداث أو كثرت الشواغل والتبعات، لأن ما تركوه من مواقف كريمة وذكريات عظيمة أو حتى بسمة حانية لا يمكن لأى زمن أن يمحوها، سواء أكان الافتقاد لهم بانتقالهم إلى رحمة الله الواسعة أم بالفراق والبعاد.

ويأتى فى مقدمة من يفتقدهم أى إنسان طبيعى الوالدان بما لهما من أياد بيضاء «رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا»، فكيف بوالد يؤثرك على نفسه، ولا يرى السعادة إلا فى سعادتك، ولا يكاد يحمل إلا همك، ولا يكاد يرى أملا إلا فى الله عز وجل ثم فيك، ويجعل من حسن تعليمك غايته المثلى، ويفخر بك على صغر سنك؟، وكيف بأم لا تسهر إلا على راحتك، إذ كانت والدتى -رحمها الله- لا تكاد تنام الليل مادمت ساهرا للمذاكرة، وتقطع أجمل نومها فى الشتاء القارس لتقدم لى ما يعينى على السهر من طعام أو شراب أو حتى مجرد مؤانسة، فلكم تعبت وتحملت معى وخاصة بعد وفاة والدى رحمه الله، ولم يقف أو يتوقف عطاؤها عند شخصى، بل لقد تحملت مع زوجتى جانبا كبيرا من عبء تربية أولادى وربما لم أر فى حياتى أما عاملت زوجة ابنها مثل ما كانت أمى رحمها الله تعامل زوجتى، وقابلتها زوجتى حفظها الله برا ببر ووفاء بوفاء، وكان حنوها على والدتى لا يقل عن حنوى عليها، وما يزال وفاؤها لها بعد وفاتها مشهودا من الجميع، فقد كانت العلاقة بينهما نموذجا رفيعا للإنسانية فى أسمى معانيها والبر فى أعظم وجوهه، وقد أسهمت هذه العلاقة كثيرا فى تقدم مسيرة حياتى وتفرغى للبحث العلمى بلا مشكلات أسرية.

وبعد والدى -رحمهما الله- تأتى أمى بعد أمى، أختى الكبرى «فريال هانم» رحمها اللّه، وكان فارق السن بيننا كبيرا فهى أكبر أخواتى وأنا أصغر الإخوة، كما كان الفارق فى السن بينى وبين أولادها ليس كبيرا، فأشهد الله ما فرقت يوما بين وبين أبنائها لا فى المودة ولا فى الإكرام، حتى بعد أن منّ الله عليّ بواسع فضله ظلت هى سباقة فى الود مبالغة فيه، لم يستطع أحد أبدا أن يفرق يوما بيننا ولا يثير لديها أى ضغينة نحوى، ما فرطت فى الأخوة ولا قصرت فى حقها، بل أجملت وأفضلت وأكرمت، وتركت برحيلها فراغا لا يُسد فى حياتى، فرحهما الله رحمة واسعة.

ويأتى مع هؤلاء من كنت أعده والدا لى بعد والدى رحمه الله خالى محمد الأمير جيرة عبدالجواد وهو أخ لوالدتى من أبيها لكنّ ما كان لخال شقيق ولا غير شقيق أن يقوم بما قام به معى من تعهد وعناية وإكرام وتشجيع وتقدير يفوق سنى بكثير، ولا سيما بعد وفاة والدى رحمه الله، وأذكر يوم أن عدته فى مرض موته قبيل وفاته بسويعات، وهو يكاد يلفظ أنفاسه وكان يقيم فى قرية مجاورة لقريتنا هى قرية كفر بنى على مركز سمسطا، فإذا به يشير إلى زوجه ومن حوله ويقول: محمد يقصدنى، جهزوا له العشاء كما كانت هى عادته دائما كلما زرته، فما زرته مرة واحدة دون أن يغمرنى ومن معى أمى أو زوجى أو أمى وزوجى بواسع كرمه، كرم النفس والوجه واللقاء والضيافة معا، حتى لو كانت ظروفه غير مواتية فلا يمكن أن يشعرك بذلك، وكانت زوجه حفظها الله تعينه على ذلك بكرم أصلها وتشاركه الحفاوة البالغة بنا وكأننا من خاصة ذويها وأشد، وقد عبرتُ عن شعورى هذا تجاه خالى رحمه الله عند قبره يوم وفاته فى خطبة لا أظن أنه من الممكن أن ينساها من شهدها، فعليه من الله تعالى سحائب الرحمة والرضوان.

 

وللحديث بقية.

الأستاذ بجامعة الأزهر