سلع قليلة ورغيف الخبز هو الأساس:
رهان المصريين ضد الجوع .. بطاقات التموين الملاذ الاَمن
أحمد: إلغاؤها «خراب بيوت» وسعاد الأرملة «كيف أعيش من غيرها؟»
رضا: «كعب دير» من خمس سنين بحثاً عن عودتها.. وعزة: حذفوا بنتى من البطاقة بسبب فاتورة محمول رغم أن خطها «كارت»
خبراء: الدعم طوق نجاة للفقراء من غلاء الأسعار.. والإبقاء على البطاقة ضرورة
لم يعد الغلاء مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل تحول إلى عبء يومى يلتهم جيوب المصريين دون رحمة. ومع كل ارتفاع جديد فى أسعار السلع الأساسية، يزداد العبء على الأسر التى لم تعد دخولها تكفى لتغطية الاحتياجات وسط هذه الدوامة، ومن ثم أصبحت بطاقات التموين بمثابة طوق نجاة لملايين المصريين فى مواجهة موجة الغلاء.
ففى بداية كل شهر، يقف المواطنون طوابير أمام المنافذ أملاً فى الحصول على ما يخفف عنهم الغلاء من السكر والزيت والأرز، صحيح أنها لا تكفى وحدها لمواجهة ارتفاع نار الأسعار، لكنها ما زالت الحائط الأخير الذى يمنع ملايين الأسر من السقوط وضمان بقاء المائدة عامرة بالطعام.
وفى إطار استراتيجيات الدولة لرفع العبء عن كاهل المواطنين، ومدهم بخطط بديلة للتخفيف من حدة هذه الأعباء، تم طرح فكرة استبدال الدعم العينى بالدعم النقدى، لتثير الفكرة حالة كبيرة من الجدل بين الرفض والقبول، وبين آراء اتجهت إلى ضرورة المزج بينهما، والجميع اتفق على الهدف وهو توجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين وضمان كفاءة أكبر للإنفاق الحكومى.
ورغم هذا الجدل، هناك ما يثير تخوفات أكثر لدى المصريين، وهى فكرة الحذف من البطاقات ومن كشوف استحقاق الدعم الذى يمثل طوق النجاة لملايين المصريين.
حكايات من قلب الأزمة
محمود، بقال تموينى منذ أكثر من 15 عاماً، يقول: «البطاقة مهمة جداً للناس، كل يوم بيسألوا عن الزيت والسكر كأنها منقذة، الكميات ساعات بتكون قليلة والناس بتزعل وأنا اللى بتحط فى وش المدفع لكن بقدر أنهم معذروين، الحياة غالية والتموين هو أملهم، وكفاية إنهم محرومين من اللحوم والفراخ بسبب أسعارهم، ومعظمهم نفسه يضاف لبن للأطفال».
سعاد أرملة لديها ثلاثة أبناء تقول: «من غير البطاقة مش هعرف أعيش هى اللى بتجيبلى الزيت والسكر والرز اللى بيمشوا البيت، صحيح الكمية قليلة بس أحسن من مفيش أكتر حاجة غالية عليا النهاردة العيش برة التموين والفراخ لو اتلغت البطاقة أنا وأولادى هنبات جعانين نفسى يزودوا بروتين ويحسوا بالناس اللى بتصرخ من الغلا إحنا مش طالبين رفاهية، بس عايزين عيالنا تاكل وتعيش زى غيرها.
يضيف أحمد موظف وأب لطفلين: «البطاقة بتوفر لى سكر وزيت ورز ومكرونة ولو مش موجودة مش هعرف أكمل الشهر. الحصة قليلة على أسرتى، وبضطر أشترى من السوق بأسعار نار، لو اتلغت بطاقتى ده هيكون خراب بيوت، ونفسى يزودوا اللبن للأطفال أو شوية بروتين.
بلال موظف متزوج ولديه طفل يعيش فى تعقيد الإجراءات: «نفسى أعمل بطاقة مستقلة باسمى، بس خايف اتشال من بطاقة أهلى ويتحذف اسمى خالص عشان كده مضطر أستنى على بطاقة أهلى، وزوجتى على بطاقة أهلها وبنكمل الشهر كده».
أما عزة، ربة منزل وأم لثلاثة أبناء، فتقول:
«اتفاجئت لما لقيتهم حذفوا اسم بنتى من البطاقة قالوا بسبب فاتورة موبايل وهى أصلاً خطها مش فاتورة حاولت أرجع اسمها كذا مرة.. لكن مفيش فايدة.
خالد، سائق تاكسى وأب لأربعة أبناء يحكى معاناته قائلاً: «أنا بصرف التموين أول ما الشهر يبدأ السكر والزيت والأرز بيخلصوا فى أسبوع والباقى من الشهر بنعيش على الديون الاسعار نار لو شالوا البطاقة أنا حرفياً مش هعرف أعيش، نفسى يبقى فى تنوع أكتر فى السلع مش بس الأساسيات عشان العيال تاكل أكل محترم زى غيرهم، العيال بتشوف أصحابهم بياكلوا حاجات مختلفة وأنا مش قادر أوفر لهم إلا الضروريات، أنا دخلى مش ثابت ويومى كله على الطريق والمكسب ما بقاش يغطى البنزين ولا مصاريف المدارس، بحس إنى بدور فى نفس الدائرة من الديون والهم والبطاقة هى الحاجة الوحيدة اللى مخلية البيت واقف على رجليه.
رضا الشاذلى يشكو بطاقتى التموينية اتوقفت من حوالى خمس سنين، بحجة أن عندى فاتورة كهرباء مرتفعة، ومن ساعتها وأنا «دايخ» بين مكتب التموين والوزارة، وقدمت تظلمات وفى كل مرة أقدم ما يثبت أن استهلاكى طبيعى جداً وأجيب فواتير بتوضح أن عداد البيت مش بيسجل أرقام عالية، لكن مفيش فايدة».
ولم تتوقف المعاناة عنده عم رضا وحده، بل فوجئ ابنه المتزوج بوقف بطاقته التموينية لنفس السبب، لتصبح الأسرة كلها محرومة من الدعم، فى وقت يصفه رضا بأنه «الأصعب» بسبب غلاء الأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة.
ويصف رضا حالته قائلا البطاقة دى كانت سند لبيتى. السكر والزيت والرز اللى كنا بناخدهم منها كانوا بيكملوا معانا نص الشهر على الأقل. دلوقتى بشترى كل حاجة من السوق الحر، والأسعار نار. مش عارف أتعامل إزاى، خصوصاً وأنا عارف إنى مظلوم، عشان عندى ورق رسمى يثبت أن استهلاكى للكهربا مش عالى.
رحلة الدعم
وكانت رحلة المصريين مع بطاقة التموين قد بدأت فى أربعينات القرن الماضى إبان الحرب العالمية الثانية حينما اشتعلت أسعار السلع الأساسية فى مطلع الأربعينيات عقب الكساد العظيم الذى ضرب العالم فى ثلاثينيات القرن الماضى، وزادت الحرب من لهيب الأسعار نتيجة لنقص السلع فى الأسواق، ما دفع الحكومة المصرية وقتها لشراء القمح والدقيق والذرة من أستراليا وضخها فى الأسواق بأسعار مخفضة وصدرت اول بطاقة تموينية وفقاً لقرار الملك فاروق رقم 95 لسنة 1945.
وبمرور الأعوام زادت السلع المدعومة لتضم الكيروسين والزيت والشاى، وفى أواخر الستينات من القرن الماضى زادت السلع المدعومة لتشمل أيضاً والسمن والأسماك والدواجن واللحوم وبعض المعلبات.
ومع تغير النظام الاقتصادى فى السبعينات والتوجه نحو الرأسمالية والخضوع لشروط صندوق النقد الدولى اشترط الصندوق فى عام 1976 خفض قيمة الدعم الممنوح للسلع الأساسية وهو ما دفع الحكومة إلى رفع أسعارها قبل أن تتراجع عقب اندلاع أحداث يناير 1977
وفى التسعينات ومع زيادة قيمة الدعم الموجه للسلع قررت الحكومة تقليص الدعم ليوجه لأربع سلع أساسية فقط هى: الزيت والأرز والسكر والدقيق، ثم تقلص العدد إلى 3 بعد أن تم حذف الدقيق، مع وقف إضافة المواليد الجدد
وفى الألفية الجديدة تمت إضافة عدد كبير من المواليد ليشمل الدعم حوالى 73 مليون مواطن، إلا أن الدولة قررت فى عام 2014 تقليص هذا العدد بعد اصدار البطاقات الذكية، وذلك بحذف المتزوجين حديثا بزعم أن من يقدر على الزواج لا يستحق التموين، وبعد حذف من يصل راتبه إلى 9600 جنيها، وبذلك تقلص العدد إلى 64 مليون مواطن.
وبعد عدة سنوات تم تقليص الدعم ليصبح 50 جنيهاً للفرد يشترى بها سلعا تموينية تتراوح بين الزيت والسكر والمكرونة والدقيق، وفعلياً أصبح هذا المبلغ لا يقدم للمواطن سوى زجاجة من الزيت وكيس من السكر، ومع ذلك فما زالت هذه البطاقة ملاذا وحماية لملايين الأسر تحميهم من شبح الجوع، خاصة أنها السبيل لتوفير رغيف الخبز المدعوم إذيحص الفرد بموجبها على 5 أرغفة يوميا بسعر جنيه واحد.
الدعم بين مطرقة التضخم وسندان الغلاء
أكد الدكتور على الإدريسى، الخبير الاقتصادى، أن قيمة الدعم الحالية لم تعد كافية لمواجهة معدلات التضخم التى تعصف بالاقتصاد المصرى. موضحاً أن المسألة لا تتعلق فقط بحجم المبالغ المقررة على بطاقات التموين، وإنما بقدرتها الشرائية الفعلية فى ظل ارتفاع الأسعار. «المبالغ الاسمية قد تبدو مقبولة على الورق، لكن قيمتها الحقيقية تتآكل سريعاً مع كل موجة تضخم ما لم يتم ربطها بآلية تعديل دورية أو مؤشر للأسعار.»
وأشار الإدريسى إلى أن موجة التضخم الأخيرة انعكست بشكل مباشر على منظومة التموين فى أكثر من اتجاه. فمن ناحية، زادت الضغوط على موازنة الدعم الحكومية مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية عالمياً ومحلياً، وهو ما خلق جدلاً حول جدوى الإبقاء على النظام الحالى دون تعديل. ومن ناحية ثانية، تراجعت القوة الشرائية للمبالغ المخصصة لكل فرد، ما أجبر كثيراً من الأسر على تقليل استهلاكها أو البحث عن بدائل أقل جودة. كما أثر اضطراب الأسعار على سلاسل الإمداد وتوزيع السلع، فشهدت بعض المحافظات فترات من النقص أو تراجع جودة المعروض، وهو ما استدعى تدخلات حكومية متكررة لضبط الأسواق.
وحول الجدل القائم بين الدعم النقدى والعينى، يرى الإدريسى أنه لا يوجد حل واحد يصلح لكل الفئات. فالدعم النقدى يمنح مرونة للمستفيد ويحفظ كرامته، خاصة إذا تم ربطه بمؤشر للتضخم يضمن الحفاظ على القوة الشرائية، بينما يضمن الدعم العينى توافر السلع الأساسية بأسعار منخفضة، وهو أمر حيوى للفئات الأشد فقراً. «الأفضل فى هذه المرحلة هو سياسة هجينة، تبقى على السلع الأساسية مثل الخبز والزيت والسكر بشكل عينى، وفى الوقت نفسه توسع من الدعم النقدى للفئات القادرة على التعامل مع السوق الحر، مع تحديث قواعد البيانات لضمان وصول الدعم لمستحقيه».
وطرح الإدريسى مجموعة من المقترحات لضمان فاعلية الدعم: أولها إنشاء قاعدة بيانات موحدة تدمج بين بطاقات التموين والضرائب والتأمينات لتحديث قوائم المستفيدين باستمرار، وثانيها اعتماد نظام هجين يميز بين الفقراء جداً الذين يحتاجون دعماً عينياً، وبين الفئات الفقيرة والمتوسطة التى يمكن دعمها نقدياً بمبالغ مرنة. كما دعا إلى ربط التحويلات بمؤشر تضخم غذائى لتعديل المبالغ تلقائياً مع تغير الأسعار، وتوسيع البنية التحتية للدفع الرقمى لتقليل التسريبات.
وشدد الخبير الاقتصادى على أهمية مكافحة الفساد فى المنظومة عبر آليات تحقق دقيقة، ودعم الإنتاج المحلى للسلع الأساسية لتقليل الاعتماد على الواردات. كما أكد أن الشفافية والتواصل مع المواطنين ضروريان لاستعادة الثقة، مقترحاً نشر تقارير نصف سنوية حول كفاءة الدعم وأثره على معدلات الفقر.
واختتم الإدريسى قائلاً: «التموين يظل صمام أمان اجتماعى، لكن استمراره فى صورته الحالية دون تطوير يعرضه لمخاطر سياسية ومالية كبيرة. الحل فى المرونة والتقييم المستمر وربط الدعم بالواقع الاقتصادى الفعلى».
ومن جانبها، قالت ريهام أحمد عبد الرحمن، الاستشارى النفسى والأسرى والتربوى، إن الغلاء لم يعد يقتصر على ضغوط اقتصادية فحسب، بل امتد ليصيب البنية النفسية والاجتماعية للأسر المصرية، وأن ارتفاع الأسعار سواء فى الإيجارات أو البنزين أو حتى السلع اليومية، حول حياة رب الأسرة إلى دائرة مغلقة من العمل المتواصل والتفكير والضغط الزائد، وذلك ينعكس مباشرة على علاقته بزوجته وأبنائه وقد يقود فى بعض الحالات إلى مظاهر سلبية مثل الاحتيال أو العنف أو حتى انتشار السلوكيات غير الأخلاقية».
وأضافت أن الغلاء أشبه بوحش يلتهم قيم المجتمع، فقد أدى إلى تراجع العلاقات الإنسانية وصلة الأرحام، وغياب الأجواء الاجتماعية التى كانت تميز المناسبات كرمضان والأفراح والزيارات العائلية. «أصبح الفرد يحسب حساب كل خطوة، حتى الخروج البسيط أو زيارة المريض، مما أضعف الروابط الاجتماعية وأدخل الأسر فى دوامة من المقارنات السلبية والشعور بالنقص والدونية، وهو ما يغذى الصراعات النفسية والتنافس غير الشريف بين الأفراد».
وأكدت عبد الرحمن أن بطاقات التموين ليست مجرد مسكن وقتى، بل آلية ضرورية تمنح الأسر الفقيرة والمتوسطة شعوراً بأن الدولة تساندهم. وأشارت إلى أن هناك أسر لا تستطيع شراء اللحوم والدواجن وتعتمد بشكل شبه كامل على البقوليات والسكر والأرز والزيت، والتموين هنا يمثل حماية حقيقية، ليس فقط من الجوع بل من الإحساس بالتجاهل، الفارق الكبير بين سعر الزيت أو السكر فى التموين والسوق الحر يوضح مدى أهمية هذه المنظومة للفقراء والمتوسطين على حد سواء».
وحذرت من أن أى تقليص أو رفع للدعم سينعكس سلباً على الصحة النفسية والاجتماعية للأسر، إذ سيؤدى إلى ضعف التغذية، وزيادة معدلات القلق والاكتئاب، ويعمق شعور المواطن بعدم الانتماء. وتقول: «الدعم بالنسبة للمواطن رسالة من الدولة أنه مُقدَّر ومذكور، وإذا فُقدت هذه الرسالة فسيفقد معها إحساسه بالاستحقاق، وسنكون أمام مشكلات نفسية واجتماعية أعقد».
واختتمت بضرورة تطوير منظومة الدعم عبر التنسيق بين الوزارات المختلفة، وضمان وصول السلع الأساسية لمستحقيها فعلياً، مع الاستفادة من التحول الرقمى فى المتابعة والتوزيع، فضلاً عن الاستثمار فى المحاصيل الاستراتيجية لضمان الاستقرار الغذائى. كما شددت على أهمية التوعية المجتمعية بمفهوم ترشيد الإنفاق وتحديد الأولويات، حتى لا يتحول الغلاء إلى أزمة أخلاقية ونفسية تضرب المجتمع بأسره.

