مصر.. من قلب العرب تصنع المستقبل الإقليمي
على مدار التاريخ، كانت مصر دائمًا قلب العالم العربي النابض، وركيزة التوازن في الشرق الأوسط.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم؛ هل تغيرت مصر قواعد اللعبة الإقليمية؟ بصراحة، نظرتي الشخصية تؤكد أن هناك تحولًا حقيقيًا، يتجاوز مجرد تصريحات رسمية أو تحركات دبلوماسية سطحية، ليصل إلى استراتيجية متكاملة تعيد للمصريين موقعهم الطبيعي كلاعب رئيسي في المنطقة.
في الماضي، اعتمدت مصر على التحالفات التقليدية والتنسيق شبه الدائم مع قوى كبرى، وكانت قدرتها على التأثير مرتبطة غالبًا بالتحالفات السياسية والاقتصادية.
ولكن مع تعقيدات الصراعات الإقليمية الحديثة، أصبح الحفاظ على النفوذ يتطلب مزيجًا من القوة العسكرية، المرونة الدبلوماسية، والرؤية الاستراتيجية القادرة على خلق توازنات جديدة.
ومن هنا بدأت مصر خطواتها لتحرير دورها، بشكل يحاكي عقلية القوة العربية الجامعة، بعيدًا عن القيود التقليدية للتنسيق المطلق مع أي جهة، بما فيها إسرائيل.
إن تقليص التنسيق مع إسرائيل ليس رفضًا للتعاون، بل هو إعادة ترتيب للأولويات، وسعي لتحقيق استقلالية استراتيجية حقيقية.
مصر اليوم تدرك أن النفوذ لا يُبنى على الاعتماد الكامل على شركاء خارجيين، بل على القدرة على صنع مبادرات تؤثر في محيطها العربي والإقليمي.
هنا يظهر الدور الكبير الذي تلعبه القوات المسلحة المصرية، ليس فقط كأداة دفاع، بل كرافعة قوة سياسية تُجبر الجميع على أخذ مواقفها بعين الاعتبار.
عندما نفكر في الماضي، نرى أن مصر كانت دائمًا محفزًا للفكر العربي المشترك. الحرب والسلام، الحروب الإقليمية، حتى المحاولات الفاشلة لإحياء مبادرات الوحدة العربية، كلها كانت أدوات لتأكيد أن لمصر كلمة حاسمة في أي معادلة.
واليوم، نرى أن الفكرة لم تختفِ، بل تطورت. إعادة إحياء مفهوم القوة العسكرية العربية المشتركة هو أسمى مثال على ذلك؛ لم تعد القوة وسيلة تهديد، بل وسيلة ضمان للاستقرار، وتأكيد على أن العالم العربي قادر على حماية مصالحه دون الاعتماد الكلي على الآخرين.
ما يميز المرحلة الحالية هو الجرأة في الرؤية، ووضوح الهدف.
لم تعد السياسة المصرية تتعلق بالمناورات الدبلوماسية قصيرة المدى، بل بمشروع طويل الأجل يعيد للمكانة العربية اعتبارها ويجعل من القاهرة نقطة جذب للمبادرات العربية والإقليمية.
وهذا لا يعني تجاهل المصالح الدولية، بل يعني توجيه هذه المصالح بما يخدم السيادة الوطنية ومكانة مصر كقوة مركزية.
لا يمكن تجاهل البعد الاقتصادي لهذا التغيير. فقد أدركت مصر أن النفوذ السياسي مرتبط بقوة اقتصادية متينة، وأن المشاريع الكبرى، سواء في الطاقة أو البنية التحتية أو التحول الرقمي، هي أدوات ضغط ورافعات قوة على الساحة الإقليمية.
لننظر إلى مشاريع مصر الكبرى الأخيرة، من توسعة قناة السويس التي أعادت رسم خريطة التجارة العالمية، إلى تطوير شبكة الكهرباء والطاقة المتجددة التي تجعل القاهرة مركز جذب اقتصادي للمنطقة.
هذه المشاريع ليست مجرد إنجازات داخلية، بل أدوات نفوذ إقليمي تُظهر قدرة مصر على التأثير في محيطها، وتجعل من تحركاتها الدبلوماسية ذات وزن أكبر لدى القوى الإقليمية والدولية. فعندما تتحرك مصر لإحياء القوة العسكرية العربية المشتركة، فهي ليست خطوة نظرية، بل امتداد طبيعي لقوة اقتصادية وعسكرية حقيقية تعكس مكانتها على الأرض.
إذًا، الرؤية المصرية اليوم ليست مجرد لعبة سياسية قصيرة المدى، بل مشروع متكامل يعيد رسم موازين القوة في الشرق الأوسط.
أحد أهم عناصر هذا التحول هو القدرة على الجمع بين الواقعية السياسية والطموح الاستراتيجي.
في الوقت الذي تحافظ فيه مصر على علاقاتها مع القوى الكبرى، نجدها في الوقت نفسه تبتكر مسارات جديدة للتعاون العربي، من خلال مبادرات عسكرية مشتركة، وتفعيل دور المنظمات الإقليمية، وربط المصالح الاقتصادية بالدور السياسي.
وما يزيد من قيمة هذه الرؤية أنها ليست مجرد خطط على الورق، بل جهد حقيقي لإعادة الكرامة والاعتبار العربي. خطوات القاهرة تظهر للعالم أن أي معادلة مستقبلية في المنطقة لن تمر إلا بموافقة مصر، ليس بسبب القوة وحدها، بل بسبب ذكاء استراتيجيتها وجرأتها في اتخاذ قرارات تصنع المستقبل.
هذه القدرة على المزج بين الحنكة التاريخية والابتكار الحديث هي ما يجعل القاهرة اليوم قلبًا نابضًا لأي تطور إقليمي، ومصدر ثقة لكل دولة تبحث عن توازن في عالم عربي متقلب.
كل هذا يشير إلى استراتيجية واعية ومبنية على حسابات دقيقة، تضع مصر في موقع القيادة بلا منازع.
الأمر الآخر الذي يستحق الانتباه هو الصورة التي تعكسها هذه التحركات داخليًا وعربيًا. الشعب المصري يرى بوضوح أن القيادة السياسية ليست مجرد مراقب، بل صانع للتغيير، قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، وتحويل المصالح الوطنية إلى قوة تأثير إقليمية.
وهذا الشعور بالاعتزاز الوطني يضيف وزنًا إضافيًا للسياسة المصرية، لأن القوة الحقيقية ليست فقط في الجيش أو الاقتصاد، بل في ثقة الشعوب بقدرة قيادتها على حماية مصالحها وتحقيق طموحاتها.
يمكننا القول إن مصر اليوم ليست فقط لاعبا إقليميًا، بل مغيرًا لقواعد اللعبة.
خطواتها نحو تقليص التنسيق مع إسرائيل، وتحريك ملف القوة العسكرية العربية المشتركة، كلها تعكس إرادة صلبة لإعادة صياغة المعادلات التقليدية.
إنها رؤية ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكم خبرات تاريخية، واستيعاب للتحديات الجديدة، ووعي بأن مكانة مصر في المنطقة لا يمكن أن تُترك للظروف أو للمصادفات، بل تُصنع بالاستراتيجية والجرأة والتخطيط الدقيق.
ومهما كانت التحديات، يظل واضحًا أن مصر اليوم، بعقلها الاستراتيجي وقوتها المتجددة، تعيد رسم الحدود السياسية للنفوذ الإقليمي، وتؤكد أن أي معادلة عربية مستقبلية لا يمكن أن تستغني عن القاهرة.
فالقوة الحقيقية ليست فقط في الأسلحة أو التحالفات، بل في القدرة على خلق التوازن وإعادة صياغة المشهد بما يخدم مصالح الأمة كلها.
وهكذا، يظل السؤال عن مصر وقواعد اللعبة الإقليمية، ليس مجرد سؤال نظرية سياسية، بل حقيقة واقعية تؤكد أن القاهرة لم تعد متفرجة، بل صانعة للمستقبل.