سد النهضة.. بين التحديات والمخاطر
افتتاح إثيوبيا لسد النهضة لم يكن مجرد خطوة إنشائية أو مشروع تنموي داخلي، بل هو إعلان واضح للتحدي واستعراض للقوة على حساب حقوق تاريخية راسخة لشعوب وادي النيل. هذه الخطوة الاستفزازية تعكس عقلية أحادية لا تعترف بمبدأ التعاون أو حسن الجوار، بل تكرّس منطق فرض الأمر الواقع في قضية تمس حياة أكثر من مئة مليون مصري يعتمدون على النيل كـ "شريان للحياة".
حيث تعوّل مصر البالغ عدد سكانها نحو ١١٠ ملايين نسمة، على النيل لتغطية ٩٧٪ من احتياجاتها من المياه، ولا سيما للزراعة. وبحسب وزارة الموارد المائية والري المصرية، فإن موارد مصر المائية تقدر بحوالي ٥٦،٦ مليار متر مكعب سنويًا، في حين تبلغ احتياجاتها المائية حوالي ١١٤ مليار متر مكعب سنويًا.
إن تجاهل أديس أبابا المتكرر للاتفاقيات الدولية، ولأصوات العقل التي دعت إلى حل تفاوضي عادل وملزم، يكشف نواياها الحقيقية: استخدام المياه كسلاح ضغط سياسي، وفرض وصاية على مصير شعوب المنطقة. لا يمكن النظر إلى هذا الافتتاح إلا باعتباره تصعيداً متعمداً ومحاولة للسيطرة، متخفية وراء شعارات "السيادة والتنمية" بينما الحقيقة أن المشروع تحوّل إلى أداة لإشعال التوترات وزعزعة الاستقرار إقليميًا.
ما فعلته إثيوبيا يُمثل استهتاراً بالقانون الدولي للمياه الذي يؤكد على "عدم الإضرار بالآخرين" وضرورة "التشاور والتوافق". فهل يُعقل أن دولة منبع تنفرد بالقرار في مشروع بهذا الحجم، متجاهلة مصالح دول المصب التي ستدفع الثمن الأكبر؟ إنها سابقة خطيرة تُنذر بفتح الباب أمام فوضى مائية قد تشتعل في أكثر من منطقة حول العالم.
المفارقة أن إثيوبيا تقدم نفسها للعالم باعتبارها "قوة صاعدة" تبحث عن التنمية، بينما واقع الأمر أنها تزرع بذور نزاع قد يتطور إلى صراع شامل، لأن الأمن المائي لا يقل خطورة عن الأمن القومي والعسكري.
يُعد افتتاح سد النهضة في هذا التوقيت استفزاز متعمد، ورسالة مفادها أن إثيوبيا لن تتراجع عن سياساتها العدائية، حتى لو كان الثمن هو إدخال المنطقة في نفق مظلم من التوتر والاضطراب. وفي المقابل، فإن الرد لا بد أن يكون بحجم التحدي: موقف موحّد، صلب، يعلن أن الأمن المائي خط أحمر، وأن أي مساس به سيقابله ردع قوي يحفظ الحقوق ويصون الكرامة.
سد النهضة لم يعد مشروعاً تنموياً، بل تحول إلى رمز للعناد والمغامرة السياسية. وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن صمته على هذا السلوك الإثيوبي لا يعني سوى المشاركة في جريمة "خنق النيل"، جريمة ضد الإنسانية والتاريخ معاً.
في النهاية، تظل الحاجة مُلحّة إلى حلول عادلة توازن بين الحقوق وتؤسس لشراكة حقيقية في إدارة مياه النيل، بعيداً عن منطق الهيمنة وفرض الأمر الواقع، وسطوة النفوذ المطلق.