أنطون تشيخوف & يوسف إدريس وجرح الإنسانية المفتوح
يقف أنطون تشيخوف (1860–1904) ويوسف إدريس (1927–1991) على ضفتين متباعدتين من الزمان والمكان واللغة، غير أنّ خيطًا خفيًا يمتدّ بينهما، كأنّ الأدب جعلهما توأمين فى روحٍ واحدة. كلاهما درس الطب ومارس مهنته، ثم انحاز إلى الكتابة أداةً لتشخيص العلّة الاجتماعية وكشف العطب فى جسد العالم.
جدّد تشيخوف فن القصة القصيرة، إذ حرّرها من أسْر العبرة والخاتمة الوعظية، وترك للصمت والإيماءة واللحظة العابرة أن تحمل دلالتها. ففى «السيدة صاحبة الكلب» و«فى الوادي» و«الطالب»، لا تنبنى القصة على حدث جلل، بل على اهتزاز داخلى يشى بما هو أعمق من ظاهر الحكاية. أما مسرحه، من «النورس» إلى «بستان الكرز»، فقد غيّر وجه المسرح الحديث، إذ استبدل المأساة المدوية بتراجيديا الحياة اليومية، حيث يصبح ما يُقال بين السطور أبلغ مما يُنطق على الخشبة.
أما يوسف إدريس، ابن الريف، فقد جاء إلى المدينة محمّلًا بصخب الأرض وبساطة الناس ومرارتهم. فى أرخص ليالى وجمهورية فرحات وبيت من لحم، دوّن تفاصيل الجوع والشهوة والقهر بجرأة غير مسبوقة، كاتبًا بلغةٍ تمزج الفصحى بالعامية، كأنه يسحب الشارع المصرى بعاميته المميزة إلى قلب النص (متفوقا بذلك على نجيب محفوظ الذى جعل كل شخصياته المصرية تتكلم بالفصحى). وفى مسرحه، خاصةً الفرافير، حطّم جدران التلقى التقليدى وفتح الباب لتفاعل الجمهور وارتجاله، ليصبح المسرح ساحةً حيّة أكثر منه منصة للعرض. لم يهادن السلطة ولا تصالح مع النفاق الاجتماعي؛ بل كتب بحدةٍ ووضوح، كمن يصرخ فى وجه حاضرٍ مأزوم.
تشيخوف يكتفى بالإيحاء وأحيانا الصمت فى منطقة الالتباس، يضع القارئ أمام مرآة الذات ليستخلص بنفسه مغزى القول. إدريس، فى المقابل، يصدم قارئه بالحقيقة العارية، يطالبه بالتصدى والمواجهة. الأول يكتب عن أعماق النفس البشرية بظلالها الدقيقة، والثانى يكتب عن صراع الشارع المصرى بلحمٍ حيّ ودمٍ ساخن. ومع ذلك فإنّهما يلتقيان فى الإيمان بدور الأدب كأداة تشخيص، لا تقل دقة عن مشرط الجراح، سواء فى ريف روسيا الموبوءة أو فى قاع مدينة القاهرة.
إنّنا اليوم، ونحن نتابع بقلوب يعصرها الألم حرب الإبادة التى يشنّها الاحتلال الإسرائيلى على أهل غزة، أحوج ما نكون إلى مثل هذا الأدب الذى تركه لنا الكبار من أمثال تشيخوف وإدريس. ففى زمنٍ يُمحى فيه الإنسان بلا رحمة، وتُهْدَم البيوت والابراج السكنية وتُسْحَق الأحلام والطفولة، تصبح الكلمة الصادقة سلاحًا معنويًّا نواجه به محاولات الإلغاء والمحو ودرعًا يحمى ذاكرتنا الجمعية من النسيان، وشاهدًا يدوّن الحقيقة فى وجه الدعايات والتزييف.
إنّ الأدب ليس بلسما باردًا للجرح، بل فعل مقاومة ضد الاستسلام للهمجية الجديدة، وإصرارٌ على أن يبقى الوعى يقظًا، والروح صلبةً حتى لايُقْتَل أهل غزة مرتين: مرةً بالقصف، ومرةً بالصمت.