في ذكرى ميلاده
"أصابعي منك في أطرافها قُبل"... قصة محمد عبدالمنعم زهران

منذ ما يزيد على السنوات الثلاث، غادرنا، ربما رحل جسدًا لكن إبداعه أبدًا لم يرحل، هكذا يبقى المبدع الحق، ولا تغيب شمسه عنا يومًا..
محمد عبدالمنعم زهران، القاص، الذي ملأ إبداعه السمع والبصر، وحاز عنه الكثير والكثير من الجوائز داخل مصر وخارجها.. اليوم الخامس من سبتمبر، هو ذكرى ميلاده، ولأن الإبداع هو أجمل ما قد يخلفه الإنسان، فاليوم تحتفل بوابة الوفد بذكرى ميلاده، بنشر إحدى أهم قصصه، وأشهرها، وهي قصة (أصابعي منك في أطرافها قُبل)، من مجموعة (سبع عربات مسافرة) والتي فازت بجائزة يوسف إدريس في القصة القصيرة عام ٢٠٢٠.
"أصابعي منك في أطرافها قُبَل"
أنا سعيد لأنني سأروي هذه القصة بنفسي، توقف أنت!أنت كتبت الكثير من القصص، اتركني من فضلك، هذا وقت ملائم تمامًا لأروي حكاية ما، في النهاية أنا مدير المطعم الذي جرى فيه كل شيء، وسأروي كل ما حدث كما رأيته دون خيال كما اعتدت أنت أن تكتب!
كنت أجلس فى مكتبي بحائطه الزجاجي الذي يطل على صالة المطعم، حيث أستطيع من مكاني الإشراف على كل شيء، لفتت نظري هذه السيدة التى تجاوزت الأربعين بقليل، تأتي بانتظام كل أسبوع فى تمام الثامنة مساء، تجلس على المنضدة الصغيرة بجوار لوحة "السيدة التي تبتسم" لتقرأ وتدخن سيجارة واحدة، وعندما تدق ساعة المطعم لتعلن التاسعة تمامًا، يبدأ النادل فى وضع أدوات المائدة، دائمًا يضع أدوات المائدة لشخصين، وفي كل مرة تأكل وحدها ولا يأتي أحد. على مدى شهور طويلة مرت لم تغير عاداتها، إذ بعد أن تفرغ من عشائها، تطلب قهوة ثم تدخن سيجارتين حتى الثانية عشرة تماما، ثم تمضي.
في البداية كنا نسألها عن جدوى وضع أطباق فارغة لشخص لا يأتي أبدًا، ولكنها كانت تقول بتأكيد وبابتسامة لطيفة لا تدع لنا مجالًا للخيار إنه سيأتي يومًا ما، ويجب أن تكون المائدة معدة. كانت في غاية اللياقة واللطف، لدرجة أن النادل كان يرفض البقشيش الذي تصر على أن تدفعه في كل مرة. اعتدنا على وجودها بعد كل هذه السنوات التي مرت.
أنت تروي الآن بصورة جيدة؛ لأنني أتفهم تمامًا شغفك بهذه السيدة الغريبة ورغبتك في أن تروي حكايتها. ولكن عليك ألا تغفل دور هذا المكان الجميل. لقد قضيتُ فيه ساعات طويلة برفقتك في مكتبك الزجاجي أحيانًا لنتحدث، وأحيانًا لأكتب القصص بينما ألاحظك وأنت تتابع بتركيز هذه السيدة. في النهاية لقد استطعت –بحق- أن تضفي لمسة هدوء خلاب على المكان.
لأنني أحببت عملي جدًا، وكنت أقضي فيه أغلب أوقاتي كما تعلم، حاولت بمرور الوقت إضفاء شعور بالهدوء والفخامة على المطعم، أعدت تأثيثه على طراز كلاسيكي محبب، لم يكن بإمكاننا أن نحدد بدقة سبب هذا الإحساس المريح - دون تكلف - الذي يشعر به أي زبون يدخل لأول مرة. ربما كان الأثاث أو الإضاءة أو اللوحات -المنتقاة بعناية على حوائطه- وربما كانت الموسيقىالتى اخترنا باقاتها من الموسيقى العربية القديمة بأدوارها وموشحاتها، ولكن دون غناء، فقط الموسيقى.
***
زبائني من نوع خاص جدًا يعشقون الهدوء أيضًا - أو ربما يحبون أن يكونوا هادئين هنا فقط كما كنت أفكر- لذا بدأت في إضافة الشموع على كل الموائد، ساعدني ذلك على تلبية الطلب المتزايد لحجز الموائد مقدمًا دون شعور بالحرج مع الزبائن الجدد، كنا نوقد الشموع على أية مائدة محجوزة، ليعلم أي زبون أنها بانتظار آخرين. جلب لنا هذا بعض المشكلات، ولكن بمرور الوقت اعتاد الجميع الأمر، ويمكن القول إنهم أحبوه على نحو ما. وكانت السيدة تحجز مائدتها الصغيرة بانتظام كل أربعاء في الثامنة مساء.لم تفلت يومًا واحدًا. أحيانًا قليلة كانت تأتي بعد موعدها بقليل، وهذا القليل يعني دقيقتين أوثلاثًا ليس إلا، ولكنها لم تكن تغادر قبل الثانية عشرة.
انتظر..انتظر قليلًا، أرى أنه من الملائم أن أتدخل لألفت نظرك إلى تفاصيل أخرى لا يمكن تجاهلها، كالتأثير الواضح لطريقة تعامل هذه السيدة وذوقها اللافت جدًّا على الزبائن، لدرجة أن بعض زبائن المطعم بدأوا يقلدون طريقتها فى التعامل الرقيق بصوتها المنخفض الذي لا يكاد يسمع. كما لا يمكن تجاهل اعتقادك أنها محض مجنونة في البداية.
لم أقل أبدًا إنها مجنونة، ربما قلت-في البداية فقط- إنها غير عادية قليلًا، أو ربما متوحدة بصورة عجيبة، إذ إنها تظل صامتة طوال الوقت، وبإمكانك أن تلحظ شرودها الذي يستمر وقتًا طويلًا وهي تنظر إلى المقعد الخالي أمامها والأطباق البيضاء الفارغة. وإذا لم تكن تلاحظ، فإنني ألاحظ جيدًا من مكاني وراء الحائط الزجاجي كيف أنها أحيانًا تبتسم فجأة، أو تميل برأسها كأنما تنظر لأحد يجلس على المقعد الخالي.
لا أبدًا، لا يمكن أن تكون غير طبيعية لمجرد أنها تشرد! إذ لمجرد أنها تشرد كان بإمكانك أن تخمن من البداية أنها تنتظر حبيبًا، هذا هو منطق الأشياء.
لأنك معتاد على استخدام خيالك، وتستطيع أن تخمن أشياء كثيرة، لأنك تكتب القصص باستمرار، أنا لا أتخيل.. فقط أروي تفاصيل ما حدث، ولو كان مجرد سقوط طبق على الأرض بصوت مزعج جدًا وتحطمه بجوار السيدة، بسبب هذا النادل الشاب، لأنه جديد للأسف، وفي هذه اللحظة بدأت أتهيأ للخروج من مكتبي لأعتذر لها.
من وجهة نظري هناك أشياء بسيطة تحدث أحيانًا ولا تصلح أن تُروى أبدًا، فسقوط طبق وتحطمه على الأرض، لا يجب أن يأخذ حيزًا مهمًّا، لأن السيدة اكتفت بأن نظرت إلى النادل الشاب المرتبك، وابتسمت له كأنما لتشجعه أو ربما لتقول له بعينين مواسيتين: لا تقلق هذا أمر عادي.. لا تلم نفسك يا صغيري. وأنت اعترضت على كلمة "صغيري" وقلت إنها لفظة غير مطروقة، وإننى فقط متأثر بقراءاتي الأجنبية، وشعرت أنك محق، وكنت أبحث عن كلمة مناسبة عندما قلتَ فجأة: يقولون هنا "يا بُنى". ولكن في النهاية دعني أعترف بأنه ربما يكون لسقوط طبق دور ما، فقط في حالة إذا تركنا السيدة أو النادل الشاب ليرويه، أنت لن يكون بإمكانك أن تروي إلا ما رأيته فقط، وهذا دوري الآن، فهذه تحديدًا طريقتي المفضلة لسرد حكاية:
.. سقط الطبق بجواري وتحطم، فارتبك الولد واحمر وجهه، كنت أريد أن أقول له لا تقلق، هذا أمر عادي، لا تلم نفسك يا بني، أردت أن أنهض لأحضنه لوقت، لأنه كان مرتجفًا، يبدو أنه يخشى ردة فعل رئيسه في العمل، لأنه بدأ يلتفت كثيرًا وبتوتر إلى هذا المكتب الزجاجي الذي يجلس عليه رجل ينظر فقط، ويشير أحيانًا، وكنت مستعدة لأن أدافع عنه حتى النهاية. وعدت أنظر إلى المقعد أمامي، تهيأ لي أنه يجلس الآن، فأطلب له طبقه المفضل "من فضلك سلمون مدخن مع شوربة البصل وسلطة سيزار". يأتي النادل ويعود عدة مرات، وتكون المائدة تمامًا كما يحب أن تكون، أرى عينيه فأتوقف عن الأكل، وأكتفي بتأمله حين يأكل، فينظر إليّ فجأة ويبتسم، ويمد أصابعه لتلمس يديّ فأقبض عليها، ثم أحمل أصابعه ببطء إلى فمي وأقبلها. ولكن المقعد كان خاليًا، فشهقت لأقاوم رغبة في البكاء، التفتُ إلى الجانب الآخر من المائدة وأشعلتُ سيجارة. فأحضروا على الفور فنجان القهوة.
هذا ما حدث فعلًا، لأنني رأيتها عبر زجاج المكتب تشعل سيجارة فاندهشت، إذ كيف تشعل سيجارة قبل أن تطلب فنجان القهوة كعادتها؟! لحسن الحظ، كان هناك فنجان معد ليخرج إلى زبون، واستطعت بسرعة توجيه النادل بالفنجان إليها فورًا. ورأيتها تتأمل اللوحة المعلقة على الحائط فوق المنضدة تمامًا، اقترب منها النادل ووضع فنجان القهوة، توقعت أن تنظر إليه وتبتسم بلطف كعادتها، ولكنها لم تلتفت، ورأيت إصبعها يعبث بشيء أسفل عينيها.
.. وضعتُ القهوة أمامها دون أن تلتفت لي، أو تومئ بلطف كعادتها، كنت أشعر نحوها بامتنان لأنها لم تؤنبني منذ قليل بسبب سقوط طبق من مائدة مجاورة، قالت لرئيسي إنها السبب فلم يعلق. عدت لأحمل الأطباق من مائدتها وهي ترفع فنجان القهوة بيدها وتنظر إلى الحائط. أعرف عاداتها جيدًا، فبمجرد أن تطلب القهوة وتدخن، فهذا يعني أن أرفع الأطباق بسرعة. طوال الفترة القصيرة لي هنا لم تقم بتغيير طلبها أبدًا، إما سلمون مدخن كما طلبت اليوم، أو بيكاتابالشامبنيون مع بطاطس بيوريه وشربة البروكلي، أحيانا تطلب مع السلمون المدخن شوربة الجمبري المسلوق مع عشبة الليمون بمذاق الليمون الحار. عندما أنهيت رفع آخر طبق، التفتت إليّ وأومأت بلطف، فابتسمت وانحنيت برأسي قليلًا. كنت مبتهجًا لأنها استعادت أخيرًا حركاتها الطبيعية.
تعجبني تحركاتها الهادئة دائمًا: جلوسها ونهوضها، الطريقة الرائعة حين تنظر وتتحدث بلطف، ثم حين تأكل وتنظر إلى المقعد أمامها، وهي ترتشف القهوة وتدخن، وفى الشتاء أو أثناء المطر حين تدخل وتعلق معطفها على المشجب بطريقة ساحرة.
إذا كان بإمكاني يا صاحبي أن أكتب شيئًا جميلًا هنا فسأكتب بهذه الطريقةعن: سيدة تمضي وحيدة، وتستقل عربة أجرة لتذهب للمطعم الذي اعتادت البقاء فيه كل يوم أربعاء في الثامنة مساء، أمامها مقعد خالٍ، ظل خاليًا لسنوات مضت، ربما لأنه مات، وربما لأنه هجرها إلى الأبد، تمسك كتابًا وتقرأ، تشرد قليلًا وتتأمل طيفًا يجلس أمامها فتبتسم، تحكي له عن وحشة الوحدة واللون الواحد الذي يكسو كل الأشياء دونه، تؤنبه بعينيها وتقاوم رغبة في البكاء. وحين يقترب النادل – في وقت غير مناسب أبدًا– تنتبه وتشعر بضيق. و…
لم يكن النادل أبدًا، صدقني! قلت لك إننا نعرف عاداتها جيدًا، وعندما نراها تفتح كتابًا لتقرأ، نتركها تقرأ، ولا نجرؤ على الاقتراب منها حتى التاسعة.
.. لأنني فقط كنت أقرأ وأنتظر الساعة التاسعة كالمعتاد لأطلب عشاء، وقبل أن تدق التاسعة لمحت النادل واقفًا قريبًا من المائدة، تضايقت لأنه لم يقف في مكانه المعتاد وتهيأت لتأنيبه لأن الساعة لم تكن التاسعة تمامًا ولأنه يقف في مكان يفتقد اللياقة. ورأيته، كان هو، واقفًا بجوار مقعده الخالي، رفعت رأسي ثم أعدتها مرة أخرى إلى الكتاب، كان خيالًا بالتأكيد، دقت التاسعة الآن، فأغلقت الكتاب وعدت أنظر، ورأيته واقفًا خلف مقعده أيضا..
- هل ستسمحين لي أن..
ولم يكمل لأنه اضطرب وبدا على وشك البكاء، وحين تذكرت "هل تسمحين أن.." تذكرت صوته أيضًا، نزعت النظارة وكان هو، واقفًا أمامي أردت أن أصرخ أو أضحك، ولكن وجهي لم يقو على شيء، قال مرة أخرى:
- هل ستسمحين؟
تأخرت عن إجابته، لأنني كنت أنظر إليه، إذ لم أكن أفهم ما يقوله. أخيرًا تمالكت نفسي وتماسكت قليلًا، وهززت رأسي فجلس، تناولتُ قائمة الطعام لأنظر فيها، قلت:
- ... هل أطلب لك العشاء؟
-نعم.
هممت بأن أتكلم
- كالمعتاد.
أحسست بالضعف لأنني شهقت وأدركت أنني على وشك البكاء فتماسكت مرة أخرى، لا أريد لوجهي أن يضعف، كان يتأملني ويفهمني، مد يده والتقط يدي، قربها إلى شفتيه ثم بدأ يقبل أطراف أصابعي فبكيت فجأة ولم أخف وجهي، وخرج صوت ملتاع من فمي، وقف فجأة ثم جذبني بهدوء من يدي، أرحت رأسي على كتفه ولم أشعر بشيء. فقط عندما جلسنا مرة أخرى لمحت النادل الشاب يلتفت لينظر بعيدًا، أردت أن أقول له ألا يخجل لأنه كان ينظر، ولكنني اكتفيت بالابتسام.
.. إذ شعرت أنه من غير اللائق أن أنظر، رغم أن النادل الآخر كان ينظر أيضًا، وكل الزبائن القدامى ينظرون بابتهاج. أخيرًا أشارت لي فاقتربت منهما، كانا يبتسمان، وقالت لي طلبها وطلب السيد بعينين يملؤهما امتنان، فانحنيت ثم استدرت وبدأت أتجه للشيف لأوصل الطلب. لمحت المدير واقفًا خلف الزجاج، يكاد وجهه يلتصق به، لمحته مرة ومرة، في المرة الأولى لمحته بسرعة كي لا يلاحظ أنني أنظر، وفي المرة الثانية، انتبهت ونظرت إليه طويلًا، لأنه كان يبكي.
أبكي! آه نعم كنت أبكي! ولكن كيف أمكنك تخيل أن النادل رآني، أعتقد أنه لم يكن يراني، ولكنني كنت أبكي فعلًا، لأنني لم أكن أصدق، إذ كنت أتخيل، أو أعني كنت لا أتخيل، ولم أتصور- اختر أنت كلمة مناسبة أنا لا أعرف أيها أكثر مناسبة – أن يكون هو، رأيت فجأة شخصًا يجلس على المقعد أمامها، بشارب ولحية غزاهما بعض شيب، بدا مرهقًا وهو ينظر إليها ويتحدث، ثم أخرج سيجارًا وأشعله، مال برأسه قليلًا إلى اليمين ونظر إلى وجهها طويلًا فنظرت إلى الأرض، ثم استأنفا حديثًا وكانت عيناها تلمعان. كنت أريد أن أحمل مقعدًا وأجلس بينهما لأسمع كل شيء، بالتأكيد سيكون الكلام خارج قدرة أى كاتب، سيكون تحديًا لك أنت أيضًا..
أعترف لك الآن بأني لم أكن لأجتريءعلى كتابة مثل هذا أبدًا، ربما فكرت أن أروي على لسان السيد، ولكنني تراجعت، إذ لن أتمكن أبدًا من تخيل ما دار بينهما. كنت سأتركه هكذا للخيال الحقيقي كما فعلت أنت. فهذا الموقف تحديدًا يصيب بالتوتر.
لهذا كنت بحاجة للهدوء، فجلست، ثم نهضت وارتديت الجاكت ووقفت أمام المرآة لأتهيأ وأضبط رابطة عنقي لأنني أردت أن أكون متأنقًا هذه الليلة تحديدًا.أخيرًا خرجت من مكتبي واتجهت إليهما باندفاع، قدمت نفسي فرحبا بي، قلت إن العشاء الليلة على حساب المطعم، فرفضا بلطف، عاودت بإصرار، ولكنهما عادا يرفضان بلطف قاطع هذه المرة. بدا السيد راقيًا جدًا عندما قال إن المطعم جميل وهادئ، قالت له إننا أحببناها فشعرت برعشة غامضة في جسدي. شكراني بمودة، كنت مرتبكًا ولم أجد كلمات مناسبة لأستطيع الرد فانسحبت بهدوء. ثم عدت لأشرف على وضع الأطباق أمامهما، وأنا ألمح الزبائن الآخرين في الموائد، كما لو كانوا يرغبون في مشاركتي خدمتهما. بعد أن تناولا العشاء، وكالمعتاد طلبا القهوة، وبدآ يدخنان معًا ويضحكان. في هذه الليلة تحديدًا اندهشت لأن الزبائن الدائمين في المطعم تجاوزوا مواعيد انصرافهم المعتادة بكثير، وظلوا جالسين على موائدهم كأنما يأتنسون بالسيد والسيدة.
سيكون عليّ الآن أن أتحدث بصورة مباشرة، لأنك حتى هذه اللحظة ترفض رواية الأمر الأكثر أهمية بالنسبة إليك، لماذا لم تقل ببساطة إن سبع سنوات مرت كانت كفيلة بأن تحبها، أنت أحببتها بصورة لا يمكن تصورها، والآن تتجاهل هذا فقط لأنك من يروي ولأن الأمر يتعلق بك. تظن أن الأمر لابد أن يظل سرًّا في داخلك فقط، ولكن يجب أن تكون متأكدًا أن من يقرأ طريقتك في رواية الحكاية سيفهم كل شيء ببساطة.
لماذا ذكرت هذا؟ كان عليك ألا تذكره أبدا! اتفقنا أن نروي قصة هذه السيدة فقط، دون تفاصيل زائدة ودون أمور شخصية ربما تتعلق بي فقط. أحبتتها أو لم أحبها، الأمر سيان لأنها تحب شخصًا آخر. بماذا يفيد ذكر هذا الأمر الآن؟! كما أنه لن يغير شيئًا للأسف. نعم أحببتها، وترددت كثيرًا في بدء حوار معها، إذ لم تكن تترك أية فرصة، وفي الليلة التي سقط فيها الطبق من النادل الشاب، انتهزت الفرصة وخرجت لأعتذر لها، ولكنها ردت باقتضاب فتراجعت. حاولت أن أتناسى كل شيء. وفي ليلة قررت أن أجلس إليها وأحادثها مهما يكن الأمر، كنت متأنقًا على غير عادتي أنظر إلى المرآة كل وقت لأتأكد أن مظهري على ما يرام. وعندما فتحت باب مكتبي لأخرج رأيته يجلس أمامها على المقعد الخالي فتراجعت. وجلست لأنني شعرت بدوار مفاجئ. ربما لم يكن عليك أن تذكر هذا أبدًا، لأنه يبعث على الأسى فقط.
الآن يا صاحبي نحن مجرد عجوزين، نتذكر حكاية جميلة ونرويها فقط كما يروي العجائز حكاياتهم، لمجرد أننا نرغب في استعادتها، أو على الأقل استعادة أوقات جميلة مررنا بها. ولكن منذ البداية كانت هذه حكايتك أنت، أنت بطلها تحديدًا وليست السيدة أبدًا.أيًّا ما كان الأمر، فأنت في هذه الليلة تبادلت حديثًا طويلًا معهما.
لا لم يكن حديثًا طويلًا، ربما كان وديًا بطريقة أو بأخرى، عندما رأيتهما ينهضان، خرجت من مكتبي واقتربت منهما، كان السيد يتأبط ذراعها، قلت إن هذه المائدة ستظل مخصصة لهما، قالا إنها مسافران وسيمضيان وقتًا لم يستطيعا تحديده، فشعرت بإحباط مفاجئ وقلت مرة أخرى إن المائدة ستظل لهما فقال السيد بصوت هادئ..
- إذا كنت مصرًّا سيكون لطيفًا جدًّا أن تحجز لنا المائدة كل أربعاء في الثامنة.
***
يذكر أن محمد عبدالمنعم زهران، قاص وروائي وشاعر ومسرحي مصري، ولد عام 1972، وتوفي في مارس 2022.
صدر له:
*في المسرح:
أشياء الليل – مسرحية – دار سعاد الصباح – الكويت – 2000 م .
ساحر الدراما- مسرحية – طبعة محدودة - إصدارات المجموعة الأدبية 2008 .
زيارة عائلية – مسرحية – المركز الأدبى للنشر والترجمة – أسيوط - 2013 .
*في القصة القصيرة:
حيرة الكائن – قصص – دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة – الشارقة 2001 طبعة ثانية- دار النسيم للنشر والتوزيع – القاهرة -2016 م .
بجوارك بينما تمطر – دار الأدهم للنشر والتوزيع – مصر 2013، وطبعة جديدة_ دار أكوان_2022.
سبع عربات مسافرة- قصص – دار النسيم للنشر والتوزيع- القاهرة- 2017، طبعة جديدة دار اكوان 2022.
هندسة العالم- قصص- منشورات المتوسط- ميلانو 2020.
المتجول في الأحلام_ مجموعة مترجمة للإنجليزية_ دار أكوان2022.
*في الشعر:
ديوان دون ضجيج _ شعر نثري_ دار أكوان 2022.
*في أدب الأطفال:
أنا ومجتمعى – سلسلة قصص للأطفال – دار أصالة للنشر والتوزيع – بيروت-2017 .
*في الرواية:
رواية "راديو راديو"- دائرة الشارقة بالإمارات 2024.
* الجوائز
تحصل على عدة جوائز في مجالي القصة والكتابة المسرحية، منها عربيا:
جائزة أخبار الأدب للقصة1999.
جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة القصة المفردة 2000.
الجائزة الأولى في مسابقة سعاد الصباح للتأليف المسرحي، 2000. عن مسرحية " أشياء الليل".
جائزة الشارقة للإبداع العربي في القصة القصيرة، 2002. عن مجموعة " حيرة الكائن".
جائزة يوسف إدريس في القصة القصيرة 2020. عن مجموعة " سبع عربات مسافرة".
وخمس جوائز أخرى إقليمية ومحلية.
تم تكريم اسمه بمؤتمر أدباء مصر بالوادي الجديد عام 2023.
- طبعًا، بالتأكيد هذا من دواعي سروري.
وضع السيد ذراعه على كتفها بينما يمضيان، فقالت لي:
- سنأتي يومًا ما في الثامنة من مساء أي أربعاء.
قلت لها بينما أنظر إلى عينيها إننا جميعًا سنكون بانتظارهما، توقفا ثم صافحاني واكتفيت بهز رأسي، إذ لم أجد كلامًا مناسبًا، تركاني وخرجا. بقيت قليلًا واقفًا، أنّبت نفسي لأنني رأيت من اللائق أن أرافقهما إلى الخارج. خرجت بسرعة وكانا قد أوقفا تاكسيًّا، ركبا ونظرا إليّ ولوّحا، فلوّحت لهما. عدت إلى الداخل ولم أشعر بالموائد التى بدأت تفرغ من الزبائن.
.........
كل أربعاء ولسنوات طويلة تظل الشموع موقدة على المائدة الصغيرة في الركن الأيسر من المطعم، بجوار لوحة "السيدة التى تبتسم" من الثامنة حتى الثانية عشرة، وفي التاسعة تحديدًا توضع أدوات المائدة والأطباق الفارغة لشخصين، ويكون طبق السلمون المدخن أو البيكاتا بالشامبنيون معدًّا وساخنًا فقط لأنهما قد يصلان في أية لحظة، لذا ينبغي أن نكون مستعدين. وفى أوقات كثيرة.. في ليالٍ تالية كان باستطاعتنا تأمل زبائن دائمين على موائدهم، تتلامس أيديهم ثم ترتفع إلى شفاه تقبل أطراف أصابعها بلطف. بينما أجلس وصاحبي في مكتبي الزجاجي لنسرد تفاصيل أخرى ليست مهمة أبدًا، ونترقب: عجوزين سيأتيان بين لحظة وأخرى، في الثامنة من مساء أي أربعاء.