قطوف
خمسة جنيهات لعم حمدي

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

عرفت عم حمدي، بائع الجرائد في حينا القديم، منذ أربعين عاما. كان أبي يرسلني إليه، وأنا طفل صغير، لأشتري منه جريدة الصباح، كل يوم. كان محله صغيرا للغاية، ولكنه احتال على ذلك بأن ثبت في الحائط المجاور له عدة مسامير، وربط فيها حبالا رفيعة، أوصلها بفروع الشجرة العتيقة، الضاربة بجذورها عند ناصية الشارع. ما إن يفتح عم حمدي محله في الصباح الباكر، ربما في السادسة صباحا، أو حتى قبل ذلك، حتى يقوم بفرد الجرائد على الحبال، باستخدام المشابك. مع أذان الظهر، ينتهي عم حمدي من توزيع الجرائد، ولا يتبقى لديه سوى بعض المجلات التي تحتل أغلفتها صور نجمات السينما المصرية والعالمية، والتي تجتذب السائرين البائسين، الذين يقفون لحظات قليلة، يحاولون خلالها حفظ التفاصيل الدقيقة، لتقتات عليها أحلامهم المستحيلة، قبل أن يمضي كل منهم في رحلته الأزلية. أما أنا، فكنت أشتري منه بعض مجلات الأطفال. لم يكن مصروفي البسيط يكفي لشراء كل ما أريد، فكان عم حمدي يسمح لي بأن أشتري عددا واحدا من أي سلسلة، ثم أبدله بآخر، مستعمل، كالجديد، مقابل قروش قليلة.
أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي كنت عائدا فيه من الجامعة، مهموما بقرب الامتحانات، أحسب في عقلي عدد الدروس التي لم أستذكرها بعد، وأتخيل في ذهني الدكتور مجاهد، وهو يخرج لي فجأة من خلف أحد أعمدة الكلية، ليسألني سؤالا مباغتا، وهو ينظر في عيني، ويبتسم. أعرف هذه النظرة جيدا، وتلك الابتسامة، فأتردد، وأتلعثم، وأنسى كل ما كنت أعرفه عن المادة، وأوقن أنني ضائع لا محالة، وأفيق من كابوس اليقظة هذا قبل خطوات من محل عم حمدي. هل أصبح المحل أصغر من ذي قبل؟ لم يتغير عم حمدي، فقط بعض شعيرات بيضاء في رأسه، وصارت نظارته أكثر سُمكا، أما الكرسي الخشبي العتيق فكان هو هو، أما الجرائد المعلقة، فهل ظلت هي هي طيلة هذه السنين؟
- ماذا تقرأ يا عم حمدي؟
= إبداع وأخبار الأدب والقاهرة.
- أهي مجلات جديدة؟ وما هذه الأغلفة الغريبة؟
= إنها تصدر منذ فترة، ولكنك لم تعد تأتي إليّ.
- ولمن تقرأ يا عم حمدي؟
= إدوار الخراط، بهاء طاهر، صنع الله، محمد المخزنجي، والمنسي قنديل.
- من كل هؤلاء؟ ولماذا لا تقرأ لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس؟
= كنت أقرأ لهم عندما كنت في عمرك. كل وقت وله أذان.
- وبكم مجلة إبداع هذه؟
= خذها بلا مقابل، على أن تعيدها لي بحالتها، كما كنت تفعل وأنت صغير. المهم أن تنتهي منها قبل يوم السبت، حين تأتي سيارة المرتجعات.
أتذكر هذا الحوار، وكأنه كان بالأمس فقط. هل مر عليه ثلاثون عاما؟ لا أذكر ماذا فعلت في الامتحانات، ولم أعد أتذكر شكل الدكتور مجاهد. فقط، أذكر ذهابي كل يوم جمعة، بعد الصلاة، إلى عم حمدي، لأشتري منه كومة من المجلات الأدبية الجديدة، وبدون استبدال. متى آخر مرة رأيته فيها؟ منذ عشرة أعوام؟ أو ربما عشرين؟ بالتأكيد منذ أن لم يعد هناك ما يربطني بحينا القديم. دائما ما يجلس عم حمدي على كرسي خشبي قديم، بجوار بضاعته، يرتدي نظارته الطبية، ويقرأ في صمت، ولا يلتفت إلى أحد. فقط عندما يسأله أحد الزبائن عن سعر مجلة أو كتاب، يلقي نظرة سريعة، ويرد عليه بمفرداته التي لا تتغير: جنيه، اثنان، ثلاثة، خمسة. حتى عندما يمد إليه أحدهم يده بالنقود، يشير إلى علبة بلاستيكية متوسطة الحجم، يضعها وسط أكوام الجرائد والمجلات، ليلقي فيها الزبائن بجنيهاتهم، ثم يعود إلى عالمه.
لماذا أتذكره كثيرا هذه الأيام؟ استولى عليّ هاجس أعرفه، يشبه ذلك الذي لا يتركني حتى أنتهي من كتابة قصة جديدة، ولا أملك إلا الاستجابة له. عندما وصلت إلى الحي القديم، لم أجد المحل، ولا الجرائد المعلقة، ولا حتى الشجرة. في مكانها، رأيته جالسا على الأرض، يسند ظهره إلى الجدار، وقد شاب شعر رأسه، ويرتدي نظارة سوداء؟ وقد نكس رأسه، ويمسك بيديه الاثنتين علبته البلاستيكية، هي هي، يمدها أمامه، وينتظر أن يضع له أحدهم جنيها، أو اثنين، وربما خمسة.