بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

قطوف- ترجمات

الصمت.. قصة(زادي سميث)

بوابة الوفد الإلكترونية

 من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع.. هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

سمية عبد المنعم




تفتّح في داخلها صمت عميق. إذ لم يحدث فجأة، بل تسلّل إليها رويدًا رويدًا، بخطوات خفيّة ماكرة. وكان أحيانًا، في أماكن بعينها أو مواقف محدَّدة، متوقَّعًا ومُرحَّبًا به — في نزهة طويلة، أو حين يبوح إنسان باعتراف شجي، أو في جنازة، أو حتى في حفلة. في تلك الأماكن جميعها، حيث كانت فيما مضى لديها الكثير لتبوح به — بل أكثر مما ينبغي، صراحةً — حلّ الآن هذا الصمت، وأصبحت مُستمعةً أفضل بكثير. لا عن وعيٍ، بل كان ذلك مجرّد أثرٍ من آثاره. لم يكن صمتًا تأمليًا روحيًا عميقًا، ولا صمتًا تنويريًّا، ولا شيئًا سعت إلى بلوغه بل فراغ فحسب.

وذات مرّة، أثناء عطلة قصيرة، لمحت جرافيتي بالإنجليزية على جسر في باريس: "العالم هو مجموع الوقائع".(ظلّت الجملة عالقة في ذهنها). بدا الصمت شبيهًا بذلك؛ ناطقًا بذاته. لكنّه كان قد يُسيء إلى الآخرين أو يُخيّب آمالهم أيضًا، تمامًا كما لا يبدو العالم نفسه كافيًا لبعض الناس. لم يكن يُجدي نفعًا في المناسبات العائلية الكبيرة مثلًا، أو عندما تناديها إحدى ابنتيها البالغتين من غرفة أخرى، أو إذا سألها أحد زملائها في العمل عن رأيها في آخر الأخبار. كان صمتها يورث الحرج في نفوس الآخرين. لكنّها، حين تنفرد به، كلّما تلاقى مع عادتها القديمة في رفع بصرها إلى أعالي الأشجار متأمّلةً الأغصان — لم يكن يزعجها في شيء.

حين يحدّق المرء في شجرة، لا يكون ثمّة انتظارٌ لكلمة أو فكرة: فالضوء كان يتسلل في صمتٍ عبر عناقيد الأوراق؛ ولا شيء يُقال. ذلك المزيج — الأوراق، والضوء، والصمت — الذي يتكرر في كل مكان، ويسهل العثور عليه، صار الآن قادرًا على أن يُفجّر دموعها؛ دموع الفرح. كانت الدموع تنساب على وجهها بلا عائق، إذ لم تعد رموشها كثيفة بما يكفي لإيقافها. لقد أسرفت في استعمال المسكارا في الماضي، وخطر ببالها أنّ أحدًا ما يجب أن يُحذّر ابنتيها من ذلك. لكن لن تكون هي من يفعل، بسبب هذا الصمت.

كانت شارون ترى نفسها شابة، لم تتغير منذ أواخر المراهقة، وكثيرًا ما كانت تعجز عن مواءمة صورتها في المرآة مع شباب روحها. لكنّ الصمت هنا كان نافعًا — مُضيئًا، كاشفًا. فقد أدركت أنّها ليست، بحالٍ من الأحوال، كتلك الفتيات الثرثارات في الحافلة. إذ بمقارنة صمتها بضجيجهنّ، أيقنت أنّها قد غدت عتيقةً بلا حدود، كالشجرة. ولم يكن الأمر مقتصرًا على أنّها باتت تتكلّم أقل منهنّ بكثير، بل إن صوتها الداخلي ذاته — ذلك السرد الداخلي الدائم الحضور، ذلك المونولوج المستغرق في الذات، الذي أدركت الآن أنّه كان يعدّ نفسه دومًا لأداءٍ دورٍ ما، كي يتحوّل إلى شخصيةٍ أمام أعين الآخرين في هذا العالم، رجاءً في أن يبادلها الآخرون محبة وفهمًا — قد اختفى هو الآخر. ولم يكن الحال هكذا مع الفتيات في الحافلة. كنّ ما زلن يتحدثن، مع أنفسهنّ ومع أي أذنٍ تتهيأ لسماعهنّ.

وكان سماعهنّ يعيدها إلى الوراء وهي تتذكر ما حدث قبل ثلاثين عامًا مضت، حين كانت تثرثر بلا انقطاع في أعياد الميلاد، وحفلات الشواء، ومهرجانات الكنيسة، واللقاءات الحميمة. وكان كبراؤها في الغالب لطفاء حيال ذلك، أما هي اليوم فقد جعلت من ذلك اللطف غايةً لها، تجاهد أن تُلقي نظرة حانية على ثرثرة ابنتيها، وتَعِد نفسها بألا تبوح لهما أبدًا بسرّ هذا الصمت، الذي يُزرع في داخلك عند منتصف العمر من حيث لا تشعر، ثم ينمو في الظلمة مثل درنة، ليلًا بعد ليل، حتى يشقّ يومًا ما تربة حياتك ويسيطر عليها. 

 

حتى وقتٍ قريب، كانت شارون تعمل في جناحٍ بالمستشفى مخصّص للأمهات المصابات بالذهان ما بعد الولادة. لم تكن طبيبة ولا معالجة نفسية. ومع ذلك كانت مهامها تشمل الإشراف على هؤلاء الشابات المضطربات ورعايتهن، إذ كانت رسالة المستشفى أن تعتني بالأمهات وأطفالهنّ في لحظة أزمتهن، كي لا يُنتزع الصغار من أحضانهن. كان عملًا شيّقًا ومُرضيًا. وعلى مدى عشرين عامًا، شعرت شارون أنّها تؤدي وظيفة لا تصلح إلا لها. وكان جزءٌ من يقينها هذا يعود إلى طفولتها، وإلى تلك التجربة التي خاضتها بنفسها مع ما تعلمت لاحقًا ألّا تُسمّيه "جنونًا". كان عمرها يقارب العاشرة حين وقفت أمام مرآة في شقة أمها، وأخذت تراودها "أفكار دخيلة"، ثم، لأيام قليلة تالية، راحت تسمع أصواتًا عديدة، عالية تتردّد في رأسها. وكانت تلك الأصوات تصحبها رؤية غريبة: جُملٌ تتحرّك في أرجاء غرفتها، وقد انفلتت من صفحات الكتب، عائمة على السقف وأمام عينيها، ومعظمها آيات من الكتاب المقدّس. وبعد بضعة أيام انتهى الأمر ولم يتكرّر قط. غير أنّه أيقظ في نفسها فضولًا دائمًا.

في مراهقتها، شاهدت الكثير من الأفلام التي تجري أحداثها في مؤسساتٍ نفسية، وبدأت تشعر بأنّها قد تكون الشخص المناسب للعمل في هذا المجال. لكنها لم تكن ميّالة للرياضيات أو العلوم، ولم تُفلح في المدرسة. وكرهت ما تراه من زهوٍ وتعالٍ عند الأطباء، على الشاشة وفي الواقع معًا. حتى فحوص الطفولة الدورية ولقاؤها لاحقًا بالاستشاريين النفسيين لم يُغيّرا كثيرًا من رأيها. ومع ذلك، كان عملها يجلب لها الفرح، وكانت تفخر بأن وظيفتها قد تشكّلت من حولها ومن حول مهاراتها الفريدة، كفستانٍ فُصّل لجسدها وحده. كانت سكرتيرةً وإدارية، لكنها أيضًا تعرف كيف تخاطب الآباء المصدومين وتواسي الأطفال الحائرين، وتتواصل مع مفتشي الحكومة وشركات التأمين والشرطة والأخصائيين الاجتماعيين والممرضات وغيرهم. وكان الناس يقولون: "شارون هي القلب النابض لهذه المؤسسة"، ولم تكن تُصحح لهم، لأن ذلك كان حقيقة. كانت قادرة على التحدّث مع أي شخص، ولم تكن تُصدر أحكامًا، وهاتان المهارتان كانتا موضع تقديرٍ في الجناح.

كانت قادرة على الحفاظ على هدوئها وسط ذلك الضباب الغامض الساحر الذي كانت تسمّيه "الجنون"، وهو يبتلع النساء ويخلق سحابةً من سوء الفهم بينهنّ وبين العالم. لم يكن دورها تصحيح هذا الفهم، بل جعل تجربة الجناح محتملة للطرفين معًا: "العاقلات" و"المجنونات". ومع أنّها لم تفهم يومًا علم الحالة تمامًا، فقد صاغت ملاحظاتها الخاصة، كهاويةٍ تراقب المريضات وهن يواجهن الأفكار الدخيلة والأصوات الشيطانية والهلوسات والبارانويا والرموز والإشارات.

لاحظت كم مرّة مرّت الروابط عبر شخصيات مألوفة — يسوع المسيح، العذراء مريم، الشيطان، الملائكة، العفاريت — ووجدت عزاءها في حضورها حتى على الجانب الآخر من العقل. ذات مرّة، حاولت أن تبوح بهذا لأحد الاستشاريين فانتهرها أمام ممرضة، وشرح لها باستخفاف أن السياق يختلف بين المغرب ونيويورك وجزيرتها، لكن نمط المريض في معالجة الواقع يظلّ واحدًا. عندها هزّت رأسها عازمة ألّا تحدّثه ثانية، وكان ذلك تقريبًا حين بدأ الصمت يتجذّر داخلها. ألقت باللوم عليه، كمن يبصق بذرة تفاح غير متخيّل للشجرة التي ستنبت منها.

أدركت أنّها وجدت ذاتها حقًا خلال تفشي فيروس كورونا، حين ارتدت معدات الحماية واكتشفت موهبة الحديث إلى الناس بعينيها فقط، وهي موهبة لم تكن لدى الجميع. فلم تخطئ النساء في تمييزها خلف القناع، بينما رأين الاستشاريين أشباحًا أو جنيّة أو زومبي. لقد أصبحت عاملة أساسية لا غنى عنها، غير أنّ الصمت خلف القناع أخذ يزهر، ومع أنها كابدت عامًا كاملًا من غير أن تُخبر أحدًا، فقد بلغ حدًّا جعله عائقًا أمام عملها وخطرًا على المريضات.

أخذتها استشارية حسنة النية جانبًا، وراحت تُحاضرها عن عقاقير وصفتها بأنها "نعمة من الله"، فأصغت شارون بصبر ثم عادت إلى مكتبها. وبعد أسابيع، لمحتها إيفيجينيا تغرق في صمت عميق، ونصحتها بالبطاطا الحلوة كما في غينيا. في اليوم نفسه اشترت كمية كبيرة من متجر الأطعمة الأفريقية وأكلتها مع كل شيء لأشهر، حتى ظنّت ابنتاها أنها قد جنّت، بينما سُرّ زوجها بالوفرة. على أي حال، كان الصمت يواصل نموّه.

قررت أن تتقاعد مبكرًا، وفي يومها الأخير نزعت البطاقات والصور التي زيّنت مكتبها طويلًا، لتكتشف أن كلًا منها لم يكن إلا صورة لإنسان صامت. رأس إيفي كان صمتًا مفعمًا بالفخر، أما صورة زوجها الشاب فكانت صامتة لأنه لم يعد موجودًا بعد أن محته أشكال متعاقبة من الرجل ذاته. جلسته في مقهى ببلدة باث، مبتسمًا لا يعلم ما سيؤول إليه، بدت بعيدة الآن، فقد صار رجلًا مثقلًا بالمرض المزمن، وأضحى عبء الأسرة كله على كتفيها. العالم هو مجموع الوقائع.

بجوار صورة زوجها كانت صورة صديقتها الأقرب، مبتسمة وصامتة، لكن صمتها كان صمت القبر. على ظهرها بيانات دار الجنازات وجملة: "المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين". وحين بحثت شارون وجدتها منسوبة لتقاليد هندوسية وإسلامية، بمعنى: "ستلقى ما قدّره لك القدر." قطّبت جبينها؛ لم يستهويها مفهوم القدر ولا مقولة "كل شيء يحدث لسبب"، فلو صحّ ذلك لشمل الشاب الذي دُفع أمام القطار، والأطفال الذين قُصفوا، والنساء اللواتي اغتُصبن، والسرطان الخبيث الذي قضى على صديقتها الجزائرية العزيزة وهي في السابعة والثلاثين. لا.

أما البطاقة الأخيرة، فكانت صورة فتاة من عصر نهضة هارليم بثوب وردي جميل، صمتها صمت التأمل، سمراء فاتنة تشبه جدّة شارون، لكن القلق بادٍ عليها. كانت سنة 1927، وكانت تتساءل عمّا قد يخبئه لها مستقبل أمريكا. كان بوسع شارون أن تروي لها الكثير، لكنها تعلمت أن مخاطبة البطاقات يُعَد جنونًا. بصمت، نزعت الصورة من طرف شاشة حاسوبها، كشطت اللاصق، وأعادتها مع بقية الصامتين داخل الصندوق.

كان التقاعد في سن السادسة والخمسين مبكرًا وأثار قلق الجميع، فكيف لامرأة في سنّها وبخلفيتها أن تجد عملًا آخر؟ كانت أسئلة زوجها وابنتيها وجيهة، لكنها لم تعد قادرة على الجواب. بدلًا من ذلك، حجزت رحلة إلى كراكوف بتسعةٍ وثمانين جنيهًا وسافرت. كانت قد زارت كراكوف في شبابها، حين انتهت رحلتها الأولى مع زوجها بشجار في الشارع. أما الآن فقد بدت المدينة مليئة بالوافدين الجدد، حتى بدا الأمر كما لو أنها غير موجودة. لم يكن هناك أطفال أو زوج أو برنامج أو زيارات مخططة، فقط ساحة عامة في أغسطس، والطقس رائع، والضوء يتسلل من بين أوراق شجرة زان.

في رحلتها الأولى، كان الجدل حول ما إذا كان الرجل قد شتم أم علّق تعليقًا جنسيًا، والأرجح بسبب فستانها الأصفر الرقيق الذي كان يبرز مفاتنها وكل ما كان يميزها قبل الأطفال والمرض والجنازات. يومها حملت جسدها كسلعة ثمينة. والآن، وهي ترى الفتيات الجميلات يمررن، فكرت أنها كانت محقّة: كانت ثمينة، وهنّ أيضًا كذلك. الطبيعة ليست إلا خلفية، أما الناس فهم الجمال والنور والغاية.

كان هذا واضحًا لها في الجناح: البلاستيك الأبيض والرمادي الصناعي، مقابل كل امرأة شابة كشعلة في سماء مظلمة. كانت هي نفسها أخّاذة، وما زالت، لكن لم يعُد أحد يلحظها؛ صمت في الداخل وصمت في الخارج. ورغم أن جمالها الخاص ابتلعه العالم، فقد واصلت أن ترى الجمال في الآخرين وتحتفي به في صمت، مقدِّرة شجرة الزان والضوء والخفافيش، من غير أن تخلط يومًا بين جمال الطبيعة والمجد الحقيقي للبشرية.

غابت الشمس وأُضيئت مصابيح الشارع الفيكتورية الكهربائية، كاشفة العشاق والسكارى والسناجب وامرأة غريبة تحدق في شجرة زان. بدا اليوم الدافئ ممتدًا مثل الصمت، وكان مفاجئًا أن ينتهي. الإشعارات في جيبها صارت أكثر إلحاحًا، حتى فتحت الهاتف لتجد رسالة:

ماما لو سمحتِ، بابا في حالة هياج! 

من تعرفينه في بولندا؟

هل لديكِ مكان للإقامة؟

كانت تنتظر شخصًا يأخذها إلى السرير، تحدق في المارة عند مستوى خصرهم، مدركة كم هو يسير أن تنهض وتتبع أيًّا منهم. لم ترد أن تسأل أو تُرفَض أو تُقبَل، بل أن تُؤخَذ في صمت وتُعاد إلى الصمت. أيّ غريب كان موضع ترحيب كامل، فقد صارت حدودها رخوة، وكأنها قد تفعل أي شيء حرفيًا. وربما قال قسّها إن شياطين غزتها، لكن القساوسة، والبنات، والأزواج، والأطباء جميعهم يعرفون بعض الأشياء ويجهلون أخرى.

فكّرت شارون أنها تؤمن بوجود سرٍّ عظيم في مركز العالم، جوهرة متعددة الأوجه لا يُبصر منها سوى وجه واحد. ستُدفن يومًا وتنمو زهور النرجس من جسدها، وسيبقى حب زوجها وملامحها في ابنتيها، ثم تُغدو مجرد جانب من جوانب العالم، كأي شيء آخر. لكنها الآن تحتاج غرفة تبيت فيها، ولو أنها فقط تستطيع صياغة السؤال! لقد تمدد صمتها حتى غطى حياتها كلها، حتى العطلات القصيرة. رفعت بصرها إلى ضوء القمر المتسلل بين أوراق الزان، فانهمرت دموع فرح خشيت أن يظنها البولنديون لاجئة تعيش على هذا المقعد.

فجأة فهمت لماذا جاءت: شاكرا كراكوف، مكان مقدس صامت. تذكرت حين كانت عروسًا جديدة وذهب بها دليل سياحي إلى قلعة فافل حيث قيل إن حجرًا سحريًا قذفه إله هندوسي استقر هناك، وجذب الزوار من أنحاء العالم ليستشعروا ذبذباته. أما هي وزوجها فوقفا بالتناوب لالتقاط الصور في تلك البقعة، ثم وضعاها فوق المدفأة كبرهان أنهما قادران على أن يكونا سياحًا ينظران إلى الأشياء، لا مجرد أشياء يُنظر إليها.

نعم، لقد جاءت إلى بولندا لتقف مجددًا في ذلك الفناء السحري، لا كامرأة شابة جميلة كثيرة الكلام ترتدي فستانًا أصفر، بل ككائن صامت متواضع، نصفه شجرة، يعرف أخيرًا ما كان يجهله. بخلاف زيارتها الأولى، لم يعد لديها ما تقوله عن الشاكرات السبع أو حقيقتها، ولا رأي لها في الخرافات أو في ما يسميه زوجها "أساطير المدن"، ولا حتى في شرعية الأديان الأخرى التي تُمارس في أراضٍ بعيدة.

وكأنها استجابت لإشارة خفية، أبصرت شابة سمراء بشَعر أسود فاحم، ترتدي سترة "نورث فيس"، فتنهض شارون وتواجه الشمال. هناك على التلّ بدت القلعة. تبعت الفتاة حتى وصلت إلى المدخل، ثم انعطفت واختفت بعد أن أدّت مهمتها: إيصالها إلى الأبواب. ربما هذا ما يحدث في منتصف العمر: أن تُقاد المرأة إلى الأبواب.

يا لجمال القلعة! فناء عصر النهضة محاط بأقواس بيضاء متكررة، واللبلاب على الجدران يتمايل مع النسيم كأن المكان يتنفس. تبعته شارون بعينيها وهو يتلوى من زاوية إلى أخرى، مثل أم تبحث عن طفلها. دوّى جرس، والناس يهرعون نحو الزاوية الصوفية الشهيرة، مجرد ركن من الجدار لا يميّزه شيء، لكنه يستقطب الجميع قبل أن تُغلق الأبواب. وقفت شارون تراقب بصمت، كأن طرقًا شتى تتكشف أمامها في اللحظة نفسها.

بعضهم لمس الجدار براحة يده لحظة ثم انصرف، وقليلون ضغطوا بظهورهم كأنهم يجلسون على كراسٍ متخيّلة. امرأة جريئة تمددت على الأرض ورفعت قدميها؛ الشاكرا كانت طبيبتها النسائية، قابلة جاءت لتسلّم طفلها يسوع وتحميه، قبل أن تدرك أنه لم يكن يسوع حقًا. شاب في زي "نورث فيس" دفع حوضه إلى الزاوية، كأنه يريد أن يجامع شاكرا كراكوف أو يتخيّل أنها ستجلب له نفعًا، ثم التفت ضاحكًا إلى أصدقائه وضحكوا معه. الشباب – في خبرة شارون المحدودة – لا يُمنحون إلا لمحة من ذلك السر المتعدد الأوجه، حتى يبدون عميانًا عنه. (لم يكن لشارون أبناء ذكور، لكنها عرفت أولئك الذين دخلوا وخرجوا من غرف بناتها). كانت تظن أن وجوه العالم تُكشف للناس في أوقات مختلفة، ولعلّ هذا ما يجعل الحكايات الخرافية تتحدث دومًا عن نساء عجائز حكيمات، وغالبًا أكبر امرأة في القرية هي من تتغلب على أنانسي الماكر.

اقتربت شارون من الجدار. بجانبها وقفت امرأة بيضاء مسنّة، يدها اليمنى عادية، أما الأخرى فمسطحة مائلة للبنفسجي والأخضر، منقطة مثل بطن سمكة ومتدلية كسمكة ميتة. بدت بلا سيطرة، خاملة تمامًا، مما أذهل شارون حتى نسيت شاكرا كراكوف. ورغم كرهها للتحديق، وجدت نفسها تحدّق. العالم هو مجموع الوقائع: السمك المسحوب من شاطئ "تريجر بيتش" في جامايكا، مذهولًا من كونه ميتًا، أو السمك الملقى على ثلج متجر أيرلندي، عفنًا في صيف شارع كيلبورن، وذباب الخيل جاثم في عيونه. هو كل الأيادي: تمتد نحو الطفل المسيح، تبعد الأرواح، تنتزع الكلمات، تعمل أو لا تعمل. عقول تعمل وأخرى لا تعمل بالطريقة المرجوّة. سمك في البحر، سمك خارجه. من الشمال إلى الجنوب، من الشمس إلى القمر، من بذرة إلى شجرة. يا له من عالم!

كانت المرأة تكبر شارون بعشرين عامًا، ترتدي سترة مزدانة بزهور وبنطالًا كحليًا وحذاء بيركنستوك، وشعرها الأبيض المتجعد يتناثر كأوراق ممزقة تحمي شيئًا ثمينًا. وضعت قدميها معًا، وانحنت برأسها على "شاكرا كراكوف"، حيث تتكاثف الطاقة الصوفية، فارتسمت على وجهها ابتسامة، كأنها تتلقى حكمة سرية خُصّت بها وحدها، فيما تدلت يدها المرتخية كسمكة ميتة. امرأة كهذه، فكرت شارون، لا تبالي بنظرات الناس، بل تعيش في مكان أبعد مما تبلغه هي. مكان صامت تحت الأشجار، حيث يتسلل الضوء. وحين حاكت شارون هيئتها، ضمّت قدميها وانحنت، تاركة دموعها تنهمر، وأسندت جبهتها في صمت إلى الحجر.