بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

قطوف

صبار

بوابة الوفد الإلكترونية

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع.. هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

"سمية عبدالمنعم"

 

كان الميكروباص يتوغل في أطراف "القاهرة"... 
وكانت "صابرة" تنظر نحو وجه "حسنية" أخت زوجها الجالسة إلى جوارها، تتأمله ثم تزم شفتيها كأنما تتعجب، حتى قالت أخيرًا:
- لسة مصممة تعملي اللي الشيخ قال عليه؟
همست الأخرى حانقة:
- برضه صوتك عالي.. أنا غلطانة إني جيبتك معايا.
تلفتت "صابرة" حولها، وعادت للنظر من الشباك..
كان الوقت عصرًا، والتراب المتطاير يمنع الرؤية بوضوح، لكنها ركزت على المقابر و "العيون" التي تتضح لها..
نزلتا من الميكروباص أمام إحدى المقابر مباشرة.. 
قالت لـ "حسنية": هي دي؟
- دي شكلها تربة ذواتي.. اللي رايحينها بتاعت واحدة غلبانة..
كانت أقدامهما تغوص في التراب.. 
انحنت "صابرة" تزيح عن ذيل جلبابها الحشائش التي التصقت به..
هتفت "حسنية" بها:
- يلا.. مش عاوزين نتأخر..
وصلتا إلى إحدى المقابر بعد أن مشيتا ربع الساعة..
قالت "صابرة":
- اقري الفاتحة يلا؟
ردت "حسنية" ساخرة:
- وأنتِ تعرفي حد هنا أصلًا؟
- ما أعرفش.. لكن الفاتحة لموتى المسلمين واجبة..
- طب اقريها طيب على ما أروح أنادي الست..
وتحركت من أمامها ناحية كوخ بدا وسط المقابر، وأمامه طفلان عاريان يلعبان..
أنهت "صابرة" الفاتحة، وهمست:
- الله يسامحك..
عادت برفقتها امرأة بدينة.. صاحبة الكوخ وأم الطفلين العاريين.. تسير فاردة صدرها الضخم كأنها ذاهبة للعراك!
قالت "صابرة":
- ما ينفعش نستنى لحد ما الدنيا تتضلم شوية؟
- براحتكم..
تدخلت "حسنية"، وقالت:
- لأ.. هو دلوقتي.. سيبك منها..
- طب إيدك على الفلوس.
فتحت "حسنية" حقيبتها، أعطت النقود للسيدة، عدتها ببطء وحرص، اقترب منها الطفلان والتصقا بجلبابها، وهما ينظران للمرأتين بحذر..
- هروح أنادي الراجل..
مضت يلتصق الطفلان بفخذيها، رفعت أحدهما على كتفها، بينما ظل الآخر يسير على قدميه، ممسكًا ببرتقالة يضع فمه بها..
قالت "صابرة":
- يا بنتي اتقي الله.
- هتعملي عليا شيخة ولا إيه؟
بهت وجه "صابرة"، وقالت في حزن:
- الله يسامحك.. أنا ماشية.
أمسكت بيدها، وهتفت بها:
- يا بت سيبيني اللي فيا مكفيني.. ما هو اللي هيجرى لي هيجرى لك برضه.. عاجبك داخلين على الأربعين لا عيل ولا تيل.. ما تصدقيش أخويا.. هيعمل قدامك صابر وراضي لكن أول ما هيتمكن من قرشين هيروح يتجوز عليكي.. أخويا وأنا عارفاه.
- كله بأمر ربنا.. لو كان عاوزنا نخلف كنا خلفنا..
- ما هو قال إسعى يا عبد وأنا أسعى معاك..
- تقومي تقطعي جتة ميتين!
وضعت "حسنية" يدها على فم "صابرة"، وهتفت:
- حسك هتفضحينا.
أزاحت يدها عن فمها، وقالت:
- أنا مش عاملة العملة دي...
- بتقولي كدة بعد ما دفعنا الفلوس؟!
- خدي نصيبي منها لما تاجي..
- مش هترجع لنا حاجة.. مش بعيد تدفنا في تربة من دول..
بدا على وجه "صابرة" الخوف، فصمتت..
عادت المرأة ومعها زوجها، في مثل سنها، يرتدي جلبابًا مقطعًا متسخًا، يفرك في عينيه، ويحمل على كتفه فأسًا..
سلم على المرأتين.. 
وبدأ الحفر...
قالت المرأة البدينة:
- أعمل لكم شاي؟
ردت "حسنية":
- شكرًا.
ولم ترد "صابرة"..
وقفتا بعيدا عن التراب الذي ملأ المكان.. 
أخذت "صابرة" تسعل وتسعل، وتدعو على "حسنية" قائلة:
- منك لله.
وتخبرها بأنها سترجع، لكن "حسنية" تمسك بها.. وتقول:
- لو مشيتي والله لأخليه يطلقك.. أنا اللي حايشاه عنك ده كله..
هتف الرجل:
- تعالوا.. خلصت..
قامت "حسنية".. 
حاولت أن تشد معها "صابرة"، أبت الأخيرة، وصرخت:
- عليا النعمة ما نازلة.. روحي أنتِ..
- علشان تحملي يا عبيطة؟
انفجرت "صابرة" بالبكاء مرة واحدة.. وصاحت:
- مش عاوزة.. يغوروا لو هييجوا بالأذية دي.
صرخت "حسنية":
- يا بنت الكلب أومال جيتي ليه؟ 
ودفعتها في صدرها دفعة قوية تراجعت على إثرها حتى كادت تقع، ثم توجهت نحو التربة..
توقفت المرأة إلى جوار "صابرة"، سألتها وهي تمسح عينيها بكمها:
- مش هتروحي معاها ليه؟
- قلبي ما يطاوعنيش. منه لله الشيخ.. هو اللي وصف لها الوصفة الشوم دي.
قالت المرأة وهي تلمح الطفلين قادمين:
- كتير بيبقوا كدة..
- طب بيحصل حاجة؟ بتحمل الست يعني؟
فضحكت المرأة البدينة، وقالت:
- بتشاوري عقلك تنزلي ولا إيه؟
صمتت "صابرة" خجلة، بينما أردفت المرأة:
- ما بنعرفش بتحمل ولا لأ.. اللي بتيجي بتيجي مرة واحدة..
ابتعدت نحو الطفلين، حين رأتهما يتجهان نحو التربة المفتوحة، ينويان أن يلعبا في تلال التراب التي صنعها الرجل على جانبيها..
وفجأة سمعت "صابرة" صوت صرخة من التربة! 
انخلع قلبها أكثر، ونظرت للسماء.. 
وبكت مجددًا.. 
ثم جلست على إحدى المصاطب، حولها الصبار، وإلى جوارها جردل مياه ممتلئ!
تناولته.. وأخذت ترش منه على الصبار.. وهي تهمس:
- معلش.. معلش.. سامحونا.
وعادت أخت زوجها من التربة.. محمرة العينين مسودة الوجه، على جلبابها ووجهها وشعرها الذي انحسر عنه إيشاربها تراب!
أخذت تنفضهما.. سألتها "صابرة":
- خلاص هنرجع؟
لم تستطع أن ترد.
مشيتا إلى جوار بعضهما.. 
وطوال السكة لم تنطق "حسنية" بحرف.. وظلت واجمة ترتعش، وكلما حاولت "صابرة" أن تسألها عن شيء، كانت تحني رأسها.. وتخرج منديلها تبكي فيه.
* * *
بعد ما جرى ظلت "حسنية" تعد الأيام والساعات في انتظار أن تشعر بشيء يتحرك في بطنها، إلا أن ذلك لم يحدث. وكان الأغرب هي المكالمة التي جاءتها في مساء أحد الأيام من أخيها... 
كان فرحانًا وهو يقول لها: 
- اسكتي.. مش البت "صابرة" حامل؟!