أطفالنا وملاذ السعادة
شاهدت عملين سينمائيين أحدهما مصرى والآخر إيطالى يدوران حول حياة الفقر والبؤس والقهر التى يعيشها البطل، الأول هو «البحث عن ملاذ آمن للسيد رامبو» فيلم مصرى من تأليف وإخراج خالد منصور، وبطولة «عصام عمر» و«هاجر حاتم» 2024 عن قصة شاب مصرى يعيش مع والدته فى شقة حقيرة متهالكة فى حى شعبى يسيطر عليه بلطجى ومدمن يهدده هو والدته بالطرد والضرب والإهانة أمام أهل الحارة المصرية ولا يحرك أحد ساكنًا، ولا يوجد أى أمن أو قانون يحمى هذا الشاب الضعيف من بلطجة وعنف إعتداء هذا المجرم كارم؛ حتى الكلب رامبو الهزيل المريض حينما حاول الدفاع عن صاحبه حسن كانت النتيجة أن هدده البلطجى بالقتل والعذاب، ويتصاعد الصراع المأساوى المجتمعى داخل الفيلم ليس فقط كاشفا فقر وقهر «حسن» البطل الذى يعمل فرد أمن فى إحدى الجامعات بالزمالك؛ ولكن أيضًا مصورًا كم الظلم وعدم الأمان والخذلان والخيانة التى يلقاها البطل من الجميع، فلا أحد يقف معه سوى كلبه رامبو، حتى حبيبته السابقة تضطر إلى الزواج من رجل يكبرها وإن كان أرمل لتربى صغاره، الكل مقهور مجبور.. النهاية موجعة حين يكون الملاذ الوحيد للكلب رامبو هو الهجرة إلى كندا حيث الأكل رخيص والحدائق ممتدة.. كما قال له حسن مواسيًا نفسه وكلبه.. أما مشهد التضاد والمفارقة بين الحياة البائسة التى يعيشها حسن وأمة وحياة الترف والرقص واللهو التى يعيشها أهل الكمبوند الذى تسكنه يسرا اللوزى هى وزوجها وقد وافقت على إيواء رامبو واصطحابه إلى كندا حيث تعيش؛ لهى لحظة تنوير للمشاهد ليرى كيف تحولت مصر إلى عالمين منفصلين تمامًا بعد أن تلاشت وسحقت الطبقة المتوسطة وتحول المجتمع إلى طبقتين: فقراء بلا أمل مهددين بالطرد من منازلهم البسيطة جدًا وحياتهم المتهالكة، وهؤلاء المترفين الذين لا يعرفون عن شركاء الوطن من البسطاء سوى أنهم مجرد خدم يعملون لديهم أمن أو نظافة أو سواقة، يمدونهم بالفتات من المال ولا يعدونهم إلا مثل رامبو حيوانات تأكل وتشرب وتنام وتتكاثر وتتصارع وفق قانون الغاب، حتى الحماية هم محرومون منها.. هذا هو المجتمع الرأسمالى المتوحش الذى أصبح السائد فى حياتنا.
الفيلم الآخر من إنتاج 2024 «قطار الأطفال» هو فيلم إيطالى عن رواية بذات الاسم تتحدث عن قطار السعادة الذى انطلق فى إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية 1946 لينقذ الأطفال من الفقر والجهل والدمار الذى أصاب الجنوب جراء الألمان وحربهم ضد أوروبا وتحالف الشيوعية الإيطالية مع هتلر.. القصة عن كيف تحرك الحزب الشيوعى الإيطالى ليجمع أطفال نابولى الحفاة العراة بعد موت أبائهم فى الحرب وتهدم بيوتهم وترمل نسائهم؛ يأخذ القطار من الجنوب إلى الشمال من أجل الرعاية والتعليم والحب الذى فقدوه فى بلدهم.. «أميرجو» الطفل ذو الثمانية أعوام يسافر تاركًا أمه بعد أن فقدت الزوج والدخل والحنان وجميع صغارها، وهناك فى الشمال ببلدة «مودنا» يتعلم الصغير الذى كان يعيش مثل الجرذان عاريًا حافيًا قذرًا، يتعلم الموسيقى والكمان ويصبح بعد ذلك من أشهر العازفين والموسيقيين فى إيطاليا.. مجتمع إيطاليا بعد الحرب حاول مساعدة الفقراء والبسطاء بأسلوب فتح لهم أبواب الأمل والحياة وبعثهم من الموت والفقر ومنحهم الحياة ومستقبل ودنيا غير تلك المهدمة المدمرة.. إنها قضية مجتمعين يمران بمحنة وأزمة إقتصادية وسياسية وإنسانية، أحدهما أستسلم للتوحش الاستثمارى والرأسمالى، بينما الآخر حاول اللجوء إلى مجتمع إنسانى اشتراكى يؤمن بالعلم والفن والحب، وأننا خلقنا بشر نساعد بعضنا البعض.. السينما تتكلم وتئن وتبكى وتسجل الماضى والحاضر واليوم نظل نبحث لأطفالنا وليس للسيد رامبو عن ملاذ آمن فى قطار السعادة والعلم والفن والحب والإنسانية.