صلاح عبدالله: "النحاس باشا" عاش معى وما زال حياً فى قلوب المصريين

فى مثل هذا اليوم، الثالث والعشرين من أغسطس، تحل ذكرى رحيل الزعيم مصطفى باشا النحاس، أحد أبرز رموز الحركة الوطنية وزعماء الأمة فى النصف الأول من القرن العشرين. وقد ترك النحاس باشا بصمة لا تمحى فى التاريخ المصرى من خلال نضاله السياسى ومواقفه الوطنية التى ارتبطت باسم حزب الوفد، وصراعه مع الاحتلال البريطانى، ومواقفه فى مواجهة القصر الملكى.
ولعل الفن كان ولا يزال أحد أهم الوسائل التى تعيد إلى الذاكرة الشعبية صور هؤلاء القادة. وقد حظى مصطفى النحاس بتجسيد لافت على الشاشة الصغيرة فى العديد من الأعمال المهمة، لعل أبرزها مسلسل الملك فاروق الذى تم تقديمه فى عام (2007)، حيث قدم الفنان القدير صلاح عبدالله شخصية الزعيم بأسلوب أقنع الجماهير والنقاد معاً، حتى اعتبر كثيرون أن أداءه كان الأقرب والأصدق للشخصية.
وأصبح العمل بمرور الزمن وسيلة لتجسيد التاريخ وإحياء هذا الرمز الوطنى الذى قلما يتكرر، حيث منح المسلسل النحاس باشا حضوراً جديداً على الشاشة، ليبقى حياً فى وجدان الأجيال الجديدة. وبينما قدم فنانون آخرون هذه الشخصية من قبل، فإن النقاد والجمهور اتفقوا على أن أداء صلاح عبدالله كان الأكثر تأثيراً، لأنه لم يكتفِ بالتشابه فى الملامح، بل أضفى على الشخصية عمقها الإنسانى والسياسى. وفى هذا الحوار، يفتح صلاح عبدالله قلبه ليتحدث عن كواليس تجسيده لمصطفى النحاس، عن الصعوبات التى واجهها، عن ردود الأفعال التى تلقاها، وعن رؤيته لشخصيات تاريخية أخرى جسدها، مؤكداً أن الفن ليس مجرد تمثيل، بل هو مسئولية وطنية وتاريخية.
< ما سر استمرار تأثير شخصية مصطفى النحاس على الشاشة حتى اليوم؟
- الفضل الأول – بعد توفيق الله – فى نجاحى بتجسيد شخصية مصطفى النحاس فى مسلسل الملك فاروق يرجع إلى الدكتورة لميس جابر، مؤلفة العمل. فقد كتبت الشخصية بحب وصدق شديدين، وقدمتها بعمق إنسانى وسياسى جعلها قريبة من قلب الجمهور.
< حدثنا عن كواليس ترشيحك للدور وبدايات التحضير له.
- تربطنى علاقة طيبة بالدكتور يحيى الفخرانى، وفى إحدى المرات فوجئت به يتصل بى ويعاتبنى قائلاً: «لماذا لا ترد على اتصالات الدكتورة لميس جابر؟ إنها تريدك فى عمل مهم» وبالفعل تواصلت معها هاتفياً، واستمرت المحادثة أكثر من ثلاث ساعات كاملة، روت لى خلالها كل ما تعرفه عن مصطفى النحاس، ورسمت أمامى صورة إنسانية ووطنية صادقة للزعيم. وبعد تلك المكالمة شعرت بأننى أصبحت مصطفى النحاس بالفعل، حتى قبل أن أقرأ السيناريو، وعندما التقيت المخرج الكبير حاتم على تأكدت أننى مقبل على عمل استثنائى.
< كيف أثرت تلك المكالمة على أدائك؟
- سيطرت على كلمات الدكتورة لميس جابر طوال فترة التحضير، فقد كانت تحب النحاس باشا على المستوى الشخصى، ونقلت لى هذا الحب بصدق، حتى إننى عندما بدأت قراءة السيناريو شعرت بأننى أعيش الشخصية بمزاج غير عادى، وبالفعل جسدت الشخصية بـ«مزاج».
< كيف كانت ردود الأفعال عقب عرض المسلسل؟
- الحقيقة أن ردود الأفعال فاقت توقعاتى، وأقيمت ندوات عديدة بعد عرض الحلقات، وتلقيت مكالمات من زملاء وأصدقاء لم أكن أتخيل أنهم يتابعون العمل بهذا الشغف. ومن أبرز المفاجآت مكالمات الفنان عمرو دياب، الذى كان يتصل بى بعد كل حلقة تقريباً ليناقشنى فى تفاصيل الأداء ويعبر عن إعجابه الشديد بالشخصية. وكذلك تلقيت اتصالاً من الفنان الكبير عزت العلايلى الذى قال لى إننى نجحت فى نقل طريقة النحاس فى الكلام وحركاته وحبه الشديد لرفاقه فى الوفد، وكذلك طريقة إدارته لخلافاته السياسية، وهذا بحكم أن الفنان عزت العلايلى شاهد الباشا فى عهده.
< هناك من لاحظ جانباً كوميدياً فى أدائك للشخصية، فهل كان ذلك مقصوداً؟
- لم أقصد أن أقدم الكوميديا فى شخصية مصطفى النحاس، لكن الجانب الإنسانى فيه كان يحمل تلقائياً بعض المواقف الطريفة. ولم يكن هناك «إفيهات» مكتوبة، بل خرجت خفة الدم من طبيعة الشخصية نفسها، من طريقة كلامه وتعابيره وعلاقته بزوجته وأصدقائه.
< كيف تعاملت مع علاقة النحاس بالملك فاروق وبالإنجليز؟
- الدكتورة لميس جابر رسمت خطوطاً واضحة لهذه العلاقات. وكان الملك فاروق ينظر إلى النحاس باعتباره منافساً ذا شعبية طاغية، ما جعله يكن له عداءً خفياً. أما علاقته بالملكة الأم – التى جسدتها الفنانة وفاء عامر – فقد كانت محورية. وكذلك سلط المسلسل الضوء على علاقته المعقدة بالإنجليز، وسياسته الحكيمة فى التعامل معهم، فضلاً عن حادثة محاولة اغتياله، وكلها مواقف صنعت صورة وطنية حقيقية. وعندما قامت ثورة يوليو 1952، كان له موقف وطنى يحترمه الجميع.
< يرى البعض أنك قدمت النحاس بصورة مختلفة عن محاولات سابقة، فما تعليقك؟
- صحيح، جسد آخرون شخصية النحاس فى أعمال مختلفة، لكننى أعتقد أننى كنت أوفر حظاً بفضل النص الذى كتبته لميس جابر. وكثيرون قالوا إن ملامحى كانت قريبة جداً من ملامح الزعيم، حتى أن بعض أصدقائى أكدوا أنهم كانوا يرونه حياً أمامهم. وهذا التوحد بين الشكل والأداء منح الشخصية صدقاً أكبر.
< حدثنا عن الجانب الإنسانى لمصطفى النحاس، خصوصاً مع زوجته؟
- كان رجلاً متحضراً للغاية، يعامل زوجته باحترام شديد، ويغمرها بحب واضح رغم أنه لم يرزق بأبناء. وكان يعتبر كل المصريين أبناءه، ولذلك لقب بحق «زعيم الأمة». هذا الجانب الإنسانى أضفى على الشخصية عمقاً وجاذبية خاصة لدى المشاهدين.
< فى رأيك، ما سر حب المصريين لمصطفى النحاس؟
- النحاس باشا كان رمزاً وطنياً استثنائياً. وتولى رئاسة الوزراء فى فترات فارقة قبل ثورة يوليو، وكان صوته مسموعاً ومواقفه واضحة، ولم يحصل أحد على لقب «زعيم الأمة» سواه. وهذا التكريم الشعبى يعكس مدى حب المصريين له.
< لك تجارب ناجحة أخرى فى تجسيد شخصيات تاريخية؛ فحدثنا عنها؟
- من بين هذه التجارب شخصية الكاتب الكبير أبوالسعود الإبيارى، التى جسدتها بناءً على طلب وإلحاح من ابنه المنتج أحمد الإبيارى. وكذلك جسدت شخصية الشيخ إمام فى فيلم الفاجومى، بدافع إعجابى الشخصى به وبأغانيه، رغم أنه لم يكن هناك شبه شكلى بيننا. كما جسدت شخصية عم جمال عبدالناصر، التى كانت مؤثرة جداً فى حياة الرئيس الراحل. لكننى أعترف بأننى أخشى تجسيد بعض الشخصيات الشهيرة، لأن المسئولية كبيرة.
< وكيف كانت تجربتك مع شخصية النحاس مقارنة بتلك الشخصيات؟
- الميزة فى شخصية النحاس أن أغلب الأجيال الحالية لم تعاصره، ولم يكن هناك سوى صور فوتوغرافية وأفلام وثائقية محدودة، وهذا كان من حسن حظى؛ فالجمهور لم تكن لديه صورة عنه، وبالتالى ربط بين صورته التاريخية وتجسيدى لها.
< حدثنا عن علاقته بالسياسيين الآخرين مثل مكرم عبيد وفؤاد باشا سراج الدين؟
- النحاس باشا كانت تربطه علاقات قوية بكبار رجال الوفد. وفى المسلسل جسدت العلاقة المعقدة مع مكرم عبيد، الذى لعب دوره ببراعة الفنان هادى الجيار. كانت العلاقة بينهما صداقة متينة تحولت إلى خلاف حاد ترك أثراً نفسياً عميقاً فى النحاس، حتى إنه بكى عندما رآه فى إحدى المناسبات بعد القطيعة. أما علاقته بفؤاد باشا سراج الدين فكانت أيضاً علاقة صداقة واحترام متبادل، النحاس كان يقدر كل وطنى مخلص حتى لو اختلف معه سياسياً.
يختتم الفنان صلاح عبدالله حديثه بتأكيد أن تجسيد الشخصيات التاريخية ليس مجرد عمل فنى، بل هو مسئولية وطنية. فالنحاس باشا لم يكن مجرد سياسى عابر، بل كان رمزاً وطنياً وصوتاً للشعب فى مواجهة التحديات. والدراما، فى رأيه، قادرة على إعادة تقديم هذه الرموز للأجيال الجديدة، لتبقى سيرتهم حية فى وجدان الأمة.
لقد نجح صلاح عبدالله فى أن يجعل مصطفى النحاس حاضراً على الشاشة بروح صادقة، فامتزج التاريخ بالفن فى لوحة إنسانية راقية. وربما لهذا السبب يظل أداؤه للشخصية، بعد أكثر من 18 عاماً، الأكثر رسوخاً وتأثيراً فى ذاكرة المشاهدين، ودليلاً على أن الفن الحق هو الذى يحفظ الذاكرة الوطنية للأمة.