بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

أَنْفَاسٌ تُكْتَبُ فِى سِجِلِّ القُرْبِ

خَلَقَ اللهُ الزَّمانَ، وَجَعَلَهُ مَجالًا لِلطَّاعَةِ وَالسُّلُوكِ، وَمِيزَانًا لِلأَعْمَالِ وَمِرْآةً لِلْقُلُوبِ، وَجَعَلَ اللَّحَظَاتِ مَجالًا لِلتَّرَقِّى فِى دَرَجَاتِ القُرْبِ وَالرِّضَا، وَنِعْمَةً عُظْمَى تُسْتَثْمَرُ فِى السَّعْيِ إِلَى مَرْضَاتِهِ.

وَإِنَّ أَصْحَابَ القُلُوبِ الْمُشْتَاقَةِ، وَالْأَنْفَاسِ التَّائِقَةِ إِلَى الْمَحْبُوبِ سُبْحَانَهُ، عُشَّاقَ الْمَعْنَى، مِمَّنْ تَرْنُو قُلُوبُهُمْ إِلَى اللهِ فِى كُلِّ حِينٍ؛ يَعْلَمُونَ أَنَّ ثَمَّ كَنْزًا مِنْ أَعْظَمِ الْكُنُوزِ الَّتِى أَوْدَعَهَا اللهُ فِينَا، كَنْزًا ثَمِينًا لَا يُشْتَرَى، وَزَادًا خَفِيًّا لَا يُخَزَّنُ، وَإِذَا مَا فَاتَ لَا يَعُودُ وَلَا يُسْتَرْجَعُ، وَهُوَ أَسْمَى الْقِيَمِ وَأَغْلَاهَا، وَبَابٌ مَفْتُوحٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ عَلَى مَدَارِ اللَّحْظَةِ وَالْأَنْفَاسِ.

إِنَّهُ الوَقْتُ، ذَلِكَ الرِّزْقُ الَّذِى يُقَسِّمُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِالتَّسَاوِى، فَيَنْهَضُ فِيهِ مَنْ عَرَفَ قِيمَتَهُ، وَيَخْسَرُ فِيهِ مَنْ غَفَلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ.

وَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَجِدُ أَنَّ الزَّمَنَ فِى القُرْآنِ الكَرِيمِ لَمْ يَكُنْ عُنْصُرًا مُهْمَلًا، وَلَا مَعْبَرًا عَابِرًا، بَلْ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى مَحَلَّ قَسَمٍ رَبَّانِيٍّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ؛ فَلَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالزَّمَنِ وَأَجْزَائِهِ فِى مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيمِ، وَمَا كَانَ رَبُّنَا لِيُقْسِمَ إِلَّا بِعَظِيمٍ جَلِيلٍ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر: ١-٢)،

فـ "العَصْرُ" هو: الزَّمَنُ، وهُوَ المِحْوَرُ الَّذِى دَارَتْ حَوْلَهُ هَذِهِ السُّورَةُ العَظِيمَةُ؛ فَبِالزَّمَنِ يَرْبَحُ النَّاسُ أَوْ يَخْسَرُونَ، وَبِمَا يَصْنَعُونَهُ فِى الوَقْتِ تَتَحَدَّدُ دَرَجَاتُهُمْ عِندَ اللهِ، فَكُلُّ إِنسَانٍ هُوَ فِى خُسْرٍ مَا دَامَ يُمْضِى الزَّمَنَ وَلَا يَصْنَعُ فِيهِ مَا يُرْضِى اللهَ تَعَالَى، وَسُورَةُ "العَصْرِ" تَكْشِفُ أَنَّ الوَقْتَ هُوَ مِيزَانُ الرِّبْحِ وَالخُسْرَانِ.

وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (اللَّيل: ١-٢)، وَيَقُولُ سبحانه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفَجْر: ١-٢)، فَكُلُّ هَذِهِ الأَقْسَامِ الرَّبَّانِيَّةِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الوَقْتَ لَيْسَ وِعَاءً فَارِغًا، بَلْ هُوَ سَاحَةُ امْتِحَانٍ، وَمَدَارُ تَكْلِيفٍ، وَمَزْرَعَةُ خُلُودٍ.

وَلَقَدْ أَدْرَكَ سَيِّدُنَا المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم قِيمَةَ الوَقْتِ؛ فَأَرْشَدَ أُمَّتَهُ إِلَى اغْتِنَامِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ" (رَوَاهُ الحَاكِمُ وَالبُخَارِيُّ فِى الأَدَبِ المُفْرَدِ)، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ" (رواه الترمذي).

أَيُّ حِكْمَةٍ هَذِهِ؟! يُعَلِّمُنَا سَيِّدُنَا المصطفى صلى الله عليه وسلمأَنَّ كُلَّ لَحْظَةٍ فُرْصَةٌ، وَكُلَّ سَاعَةٍ نِعْمَةٌ، وَكُلَّ يَوْمٍ إِمْكَانٌ لِلتَّرَقِّى، فَإِذَا انْقَضَى الوَقْتُ دُونَ عَمَلٍ فَقد انْقَضَى دُونَ أَثَرٍ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)، فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ خَاضِعَةٌ لِمَرْحَلَةٍ زَمَنِيَّةٍ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَثْمِرْهَا فِى وَقْتِهَا ضَاعَتْ وَذَهَبَتْ، وَلَكَمْ تَمُرُّ الأَيَّامُ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ فِى لَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، فَإِذَا أَفَاقُوا وَجَدُوا الزَّمَنَ قَدْ تَسَرَّبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كَمَا يَتَسَرَّبُ المَاءُ مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ.

وَلَقَدْ كَانَ أَهْلُ اللهِ وَأَهْلُ المَعْرِفَةِ وَالعِرْفَانِ، أَرْبَابُ السُّلُوكِ وَعُشَّاقُ اللهِ مِنَ العَارِفِينَ؛ يَنْظُرُونَ إِلَى الوَقْتِ فَيَعْتَبِرُونَهُ الوِعَاءَ الَّذِى يَتَجَلَّى فِيهِ اللهُ لِعِبَادِهِ، وَكُلُّ لَحْظَةٍ مِنَ الوَقْتِ عِنْدَهُمْ هِيَ مِيدَانُ مُرَاقَبَةٍ وَشُهُودٍ، وَسَاحَةُ عِبَادَةٍ وَشُكْرٍ، فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى الوَقْتِ، بَلْ جَعَلُوهُ أَسَاسَ السُّلُوكِ وَعُكُوفَ القَلْبِ عَلَى اللهِ، قَالَ الإِمَامُ الجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللهُ: "الوَقْتُ سَيْفٌ، إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ"،

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ رحمه الله: "كُنَّا نُحَاسِبُ أَنْفُسَنَا عَلَى اللَّحْظَةِ وَخَاطِرِ الخَاطِرِ، فَكَيْفَ بِالسَّاعَاتِ وَالأَيَّامِ؟!"،

وَقَالَ الحَارِثُ المُحَاسِبِيُّ رحمه الله: "مَنْ لَمْ تَكُنْ أَوْقَاتُهُ طَاعَةً، كَانَتْ حَسَرَاتٍ"، هَكَذَا كَانُوا، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّحَظَاتِ مَزَارِعُ، وَأَنَّ الأَنْفَاسَ مَرَاتِبُ، وَمَا زَالُوا يُوصُونَ أَنْ يَكُونَ المَرْءُ "ابْنَ وَقْتِهِ"، لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا مَضَى بِحُزْنٍ، وَلَا إِلَى مَا يَأْتِى بِأَمَلٍ مَشْغُولٍ، بَلْ يَكُونُ حَاضِرًا مَعَ اللهِ، عَاكِفًا عَلَيْهِ، مُسْتَثْمِرًا اللَّحْظَةَ، حَافِظًا لِلْأَنْفَاسِ، حَارِسًا عَلَى الفُيُوضَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِى تَنْزِلُ فِى كُلِّ حِينٍ.

وَإِنَّ النَّاظِرَ فِى عَصْرِنَا الحَدِيثِ إِلَى الأَوْقَاتِ يَرَاهَا قَدْ أَصْبَحَتْ تُهْدَرُ فِى غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَانْشَغَلَتِ القُلُوبُ بِمَا لَا يَنْفَعُ، وَضَاعَتِ السَّاعَاتُ فِى تَصَفُّحِ ومطالعة وَتَتَبُّعِ السُّرُوبِ وَالزَّخَارِفِ، وَإِنَّ مِنَ العَجَبِ أَنْ يَشْكُوَ النَّاسُ ضِيقَ الوَقْتِ وَهُمْ يَسْرِقُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيُقَطِّعُونَهُ فِى غَفْلَةٍ، وَيُبَدِّدُونَهُ فِى هَذَرٍ وَهَزَلٍ.

فَكَمْ مِنْ شَابٍّ أُعْطِيَ القُوَّةَ وَالصِّحَّةَ وَالفَرَاغَ فَشَغَلَهُ اللَّهْوُ وَاللعب؟ وَكَمْ مِنْ كَهْلٍ نَدِمَ عَلَى سِنِينَ ضَاعَتْ فِى الجِدَالِ أَوِ الغَضَبِ أَوِ البِطَالَةِ؟ وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ بَكَى عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَادَ يُغْلَقُ الكِتَابُ وَتُطْوَى صَحِيفَتُهُ؟ يَقُولُ الإِمَامُ ابْنُ عَطَاءَ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِى حِكَمِهِ: "الأَنْفَاسُ خَزَائِنُ، فَاحْذَرْ أَنْ تُصْرَفَ فِى غَيْرِ الطَّاعَةِ، فَتَنْدَمَ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ"، وَقَالَ عَلِيُّ بن أبى طالب : "النَّاسُ نِيَامٌ، فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا"، فَإِذَا صَحَوْتَ مِنَ غَفْلَتك لَمْ يَكُنِ الزَّمَنُ فِى جَانِبِكَ، وَلَا تَبْقَى فُرْصَةٌ لِلتَّدَارُكِ.

فَكَيْفَ نُصْلِحُ مَا فَسَدَ؟ نُعِيد النَّظَرَ فِى تَعَامُلِنَا مَعَ الزَّمَنِ، وَنَجْعَل أَعْمَارَنَا مَوَاسِمَ طَاعَةٍ وَذِكْرٍ وَخَيْرٍ.

وَخِتَامًا:

الوَقْتُ نِعْمَةٌ كُبْرَى، لَكِنَّهُ أَيْضًا أَمَانَةٌ وَمَسْئولِيَّةٌ، وَكُلُّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ بِكَ هِيَ سُؤَالٌ جَدِيدٌ: أَلَكَ أَمْ عَلَيْكَ؟.

وَسَتُسْأَلُ: عَنْ عُمْرِكَ فِيمَ أَفْنَيْتَهُ؟ وَعَنْ سَاعَاتِكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا؟

فاختر أن تكون من أولئك الذين يمرّ الزمان عليهم وهم يتعبّدون الله فى كل حال، يزرعون فى كل لحظة ويحصدون فى كل حين من ثمار الرضا والتوفيق.

وزير الأوقاف رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية