قطوف
الجُدران

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم

رنّاتُ هاتفها المحمولِ لا تتوقّفُ، إنّها المرّةُ السابعةُ التي يتّصلُ فيها، قبلها ستُّ مرّاتٍ متتاليةٍ كنتُ خلالها أنظرُ للشاشةِ ثم أُديرُ رأسي ولا أردُّ، لكنّه لم يتوقّفْ، ولن يتوقّفَ، فأنا أعلمُ إصرارَهُ وعنادَهُ. ضغطتُ زرَّ الاستقبالِ وأجبتُهُ لمرّةٍ أخيرةٍ تعمّدتُ فيها إظهارَ الاتّزانِ والهدوءِ:
– نَعَمْ!
أتانِيَ صوتُهُ المُندفِعُ عبرَ سمّاعةِ الهاتفِ محمّلاً بالهلعِ والكلماتِ التي يقذفُها فمُهُ دونَ توقّفٍ:
– إنّهم هنا، ظِلالُهم تُحاصرُني، كلّما التفتُّ أجدْها تُطلُّ فوقَ رأسي، تَعلَمينَ.. تَعلَمينَ أنّني لا أستطيعُ إخبارَ أحدٍ غيركِ.. الجميعُ مُتآمِرونَ ولا ثقةَ لي بهم، لا أثقُ بسواكِ.. أنتِ فقط.
تنهّدتُ بصوتٍ مسموعٍ وأنا أحاولُ جاهدةً أن يكونَ ردّي هادئًا، ولكنّه لم يُمهلْني وأكملَ كلماتِه التي أثارَتْ حنقي...
– لقد كذَّبتِني في بدايةِ الأمرِ حين قلتُ لكِ إنّهم يأمرونَها أن تتزحزحَ.. أن تقتربَ من بعضِها البعضِ، وها هي الآنَ كادتْ أن تَنطبقَ، لقد أصبحَ المكانُ بالكادِ يتّسِعُ لِجسدي.
أغمضتُ عينيَّ أُحاوِلُ احتواءَ الأمرِ، دوّامةٌ تُطيحُ بعقلي وأنا أُردّدُ: لا فائدة! إنّهُ نفسُ الكلامِ الذي مَلِلْتُ سَماعَهُ؛ فأجبتُهُ:
– ثانية! ألن يَنتهي هذا؟
كنتُ أستمعُ لكلماتِه وأنا أتذكّرُ عددَ المرّاتِ التي تكرّرَ فيها هذا الأمرُ، فانفلتَتْ أعصابي:
– قلتُ لكَ مرارًا اخرُجْ، تَنفّسْ، انظُرْ من النافذةِ، افعلْ أيَّ شيءٍ، غيرَ أن تظلَّ هكذا تُراقِبُ تلكَ الجدرانِ التي تُغافلُكَ وتقتربُ من بعضِها البعضِ.
أدهشَنِي صمتُهُ المُفاجئُ لِثوانٍ معدودةٍ، ثمّ صراخُهُ المُلتاعُ وكأنّ شيئًا من الجنونِ قد مَسَّهُ:
– صدّقيني، لم يَعدْ هناكَ مزيدٌ من الوقتِ، يجبُ أن تأتي الآنَ وفورًا!
صرختُ بِنفادِ صبرٍ:
– لقد صدّقتُكَ حين قلتَ لي إنّهم أجبَروكَ على تركِ العملِ، دعمتُكَ، ساندتُكَ، ما الذي جنيتُهُ بعدَ ذلك؟ صُراخُكَ عليَّ ليلَ نهارٍ!، آثارُ نوباتِ غضبِكَ التي ما زالتْ تُوشِمُ جسدي! فقط لأنّني أنكرْتُ ما تراهُ وتحاولُ دفعي عُنوةً لتصديقِه؟
ازدَادَ صراخُهُ، فبادلتُهُ صُراخًا بصُراخ:
– قلتُ لكَ كُفَّ عن مُراقبتِها، أنتَ لا تسمعُني، لا تُنصتُ لكلامي، لقد سَئِمتُ عِنادكَ.
عاجَلني صوتُهُ المُتوسّلُ وأنفاسُهُ المُتلاحقةُ وكلماتُهُ المُرتعشةُ:
– أرجوكِ، إمّا الآنَ أو لن يكونَ هناكَ أيّةُ فرصةٍ لدخولِكِ، لن تستطيعِي حتى دفعَ البابِ، فقد اقتربَتِ الجدرانُ حتى أنّها ضغطَت السريرَ فتغيّرتْ هيئتُه، لم يَعُدْ شيء على حالِهِ، لم يَعُدْ شيءٌ كما عرَفتِهِ، إنْ تأخّرتِ سيكونُ الأوانُ قد فاتَ، أستحلفُكِ باللهِ، صدّقيني، هذهِ المرّةَ، هذهِ المرّةَ فقط...
كنتُ أُعيدُ عليهِ تلكَ الكلماتِ المكرورةِ التي حفِظَها عن ظهرِ قلبٍ، أُحاولُ التحكّمَ بأعصابي عَلّي أُبثُّهُ بعضَ الطمأنينةِ، إلا أنّ صراخَهُ المُتواصِل قد حرّكَ شيئًا ما بداخلي.
اختطفتُ حقيبتي، اندفعتُ متوجّهةً نحو منزلِه، لم أُغلِقِ الهاتفَ -ظللتُ على تواصلٍ معهُ طوالَ الطريقِ- أُحاولُ طمأنتَهُ، ويُواصِلُ هو الصراخَ، يُلاحقُني بكلماتِ الواثقِ مما يحدثُ معهُ مردّدًا:
– أنا لا أُريدُكِ أن تأتيَ لإنقاذي.. لا، لا مُطلقًا، فأنا أُدركُ قدريّةَ ما يحدُثُ، قدريّةَ المصيرِ، ما أُريدُهُ أن تَري بنفسِكِ أنني لستُ واهِمًا، لتُشاهدي السريرَ مُنحشرًا بين جدارَيْنِ.. وقد تَشظّى خشبُهُ وتحوّلَ هيكلُهُ المستطيلُ إلى أعجوبةٍ هندسيةٍ من خَلقِ تلكَ الجُدرانِ.
حينَ وصلْتُ أمامَ المبنى الذي يسكنُهُ، كانَ صوتُهُ على الجانبِ الآخرِ من الهاتفِ قد أَصابَهُ الإعياءُ، وبدأ في الخفوتِ، كنتُ أستحثُّهُ على مواصلةِ الكلامِ، أصرخُ باسمِه حتى أصبحتُ أمامَ البابِ فانقطعَ صوتُهُ تمامًا. أَولجتُ المفتاحَ في فتحَتِه، أدرْتُهُ بسرعةٍ، حاولتُ دفعَهُ، لكن كانَ هناكَ ما يُعيقهُ، استندْتُ عليهِ بكلتا يديَّ، دفعْتُهُ بكلِّ قوّتِي، فانزاحَ قليلًا مُحدثًا صوتَ تَهشُّمٍ لأشياءٍ كانتْ قد تراكمَتْ خلفَهُ، حشرتُ جسدي في الجزءِ المنفرجِ دافعةً بنفسي للداخلِ، وما إن أطللتُ برأسي داخلَ الغرفةِ حتى هالَنِي ما رأيتُ.
الفوضى تعمُّ المكانَ، كأنّ إعصارًا قد ضربَهُ.. لا شيءَ سليمٌ، لا شيءَ بمكانِه، أُحاولُ المرورَ مُتعثّرةً بقطعِ الأثاثِ المُتهشّمِ، والزجاجِ الذي يتكسّرُ تحتَ حذائِي نافذًا إلى قدمَيّ، أتجاهلُ الألمَ، أَتلفّتُ في كلِّ اتجاهٍ باحثةً عنهُ صارخةً باسمِه، ولا يأتينِي أيُّ ردٍّ.
في ظلِّ الهلعِ الذي تملّكني، اندفعتُ أُحرّكُ ما أستطيعُ إزاحتَهُ للتقدُّمِ إلى الداخلِ، حتى لمحتُ إضاءةَ هاتفِه المحمولِ تَلتمعُ من تحتِ الأثاثِ، فأسرعتُ في محاولةٍ للوصولِ إليهِ، عندما اقتربْتُ وجدتُهُ مُنكفئًا على وجهِه، ذراعُهُ اليمنى مُمتدّةٌ إلى الأمامِ مُتَشبّثةٌ بالهاتفِ لا تُفلِتُهُ، صرختُ باسمِه، لكنّه لم يتحرّكْ...
مددتُ يدِي أَجذبُهُ، أُخلّصُهُ مما تراكَمَ فوقَهُ، وما إن بادرتُ بسحبِه نَحوِي حتى انتفضَ جسدي وسرتْ بهِ القشعريرةُ وأنا أَشعرُ باهتزازِ المكانِ، فتعجّلتُ سحبَهُ بعيدًا، اعتقادًا منّي بأنّ الاهتزازَ ناتجٌ عن تحريكِ تلكَ الفوضى، لكنّني تسمرتُ في مكاني، عاجزةً عن أيِّ فِعلٍ أمامَ الظلالِ التي أطلّتْ فوقَ رأسي، بينما اخترقَ سمعي صوتُ تَزَحزُحِ الجدرانِ التي كانتْ تُواصِلُ تحرّكَها.