(الفخراني أسطوره تتربع على عرش "المسرح القومي")
الآن على خشبة المسرح القومي تتجلى ملحمة شكسبير الخالدة "الملك لير" ليحيى الفخراني.
إنها ليست مجرد إعادة تقديم لمسرحية عالمية، بل هي إضافة حقيقية للتاريخ المسرحي المصري في ثوب جديد يزهو بإبداع الفنان الكبير يحيى الفخراني، الذي لا يمثل دور الملك بل يتقمص روحه بكل ما فيها من جبروت وانهيار.. ليأسر الجمهور في رحلة درامية مؤثرة.
و منذ اللحظة الأولى لدخول الفخراني إلى المسرح يفرض حضوره سيطرته المطلقة.
فهو لا يحتاج إلى صراخ أو حركات مبالغ فيها ليؤكد شخصيته...فصوته المتهدج ونظرته التي تحمل تاريخًا من العظمة ثم الانهيار كفيلة بإقناعنا بأنه الملك "لير" حقًا.. إن هذا الأداء ليس تمثيلًا، بل هو حالة تلبس كاملة.. وتناغم فني مبهر يبرز أداء الفخراني في المسرحية حيث يوازن ببراعة بين مشاعر الغضب و الحكمة والجنون، فكان مشهد عاصفة الجنون الشهير الذي يؤديه الفخراني هو لحظة مسرحية فارقة ولا يمكن لي و للمتفرج أن ننسى صوته وهو يصرخ في وجه الطبيعة معبرًا عن عاصفة داخلية تفوق في شدتها أي عاصفة خارجية..مما جعلني تأثرت حد البكاء.
ولا يكتمل المشهد إلا بوجود وتألق الفنان طارق الدسوقي اللذي أبهرني بأداؤه حيث الأبداع في الحركه على المسرح بتناغم منقطع النظير مع فريق العمل المتميز وآداء كل فنان كان يضيف بُعدًا خاصًا للشخصية مما يجعل المسرحية لوحة فنية متكاملة.
حتى فنانو المجاميع أبدعوا في تعبيراتهم الجسدية.
ثم يأتي المسرح القومي ليكون بطلًا آخر في هذا العمل حيث يضيف المكان التاريخي ثقلًا وأصالة.
أيضاً لم تكن الديكورات والإضاءة مجرد خلفية فقط بل كان الديكور قطعة فنية بحد ذاته وكان جزءًا من السرد الدرامي، إذ عكست التحولات النفسية للملك لير من القصور الفخمة إلى العواصف القاحلة...
أما الإضاءة فكانت بمثابة إيقاع بصري يواكب الأحداث.. تارة قاسية ومباشرة لتعكس قسوة الملك.. وتارة أخرى خافتة ومهتزة لتواكب انهياره العقلي مما زاد من عمق المشاهد وجمالها.
أما نقاء الصوت الذي اخترق وجداني جعلني أشعر وكأنني معهم داخل تلك الرواية، كما أن تصميم الأزياء الدقيق أضفى عمقًا على شخصيات العمل وساعد على إيصال رسالة كل منهم.
وأود أن أشيد بجهود الإدارة المسئولة عن المسرح، فهذا النجاح الباهر لم يكن ليتحقق لولا وجود مخرج و إداره واعيه و مسئولين يقدرون قيمة المسرح ودوره في المجتمع. لقد أثبت القائمون على المسرح القومي أنهم يمتلكون رؤية فنية حقيقية لا تكتفي بتقديم عروض تقليدية فقط بل تسعى لإستقطاب الأعمال الكبرى ونجوم الصف الأول.. مع توفير كل الدعم الفني والتقني اللازم لتقديمها بأفضل صورة ممكنة.
هذه الجهود المخلصة في التنظيم والإدارة هي التي سمحت بظهور عمل بهذه الجودة وعودة الجمهور إلى المسرح بشغف...مما يبعث الأمل في مستقبل المسرح المصري.
فمن الملاحظ ايضاً ان المسرحية شهدت حضورًا جماهيريًا لافتًا وتفاعل الجمهور مع كل لحظة من لحظات العرض فكان هناك تصفيق حار وصمت عميق ما يؤكد أن الجمهور لم يشاهد عرضًا فنيًا فحسب، بل عاش تجربة إنسانية عميقة تظل عالقة في الأذهان.
إنها شهادة حيه على أن المسرح لا يزال قادرًا على إبهارنا وعلى أن هناك فنانين عظماء يستحقون أن نذهب إليهم لنشاهدهم وهم يتألقون.
لقد أثبت الفخراني مرة أخرى أنه ليس مجرد ممثل بل هو أسطورة حية تتربع على عرش الفن..
و أؤكد أن قيمة المسرح الحقيقية تكمن في قدرته على لمس قلوبنا وعقولنا بعمق و ان الفن الراقي باق ما بقي الإبداع..