الزاد
الرحم واحد...
حين تعود إلى بدايات القرن العشرين، لا يمكنك تجاهل الدور الذى لعبته بريطانيا, فى ولادة كيانات غيرت وجه المنطقة، ولا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم. ما بين وعد بلفور عام 1917، وظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، تقف بريطانيا بصفتها المشتركة فى صناعة مشروعين متناقضين فى الشكل، لكنهما يخدمان غاية واحدة, زعزعة استقرار الشرق الأوسط وتفكيك الدولة الوطنية، وهذا يعنى ان بلد المنشأ واحد.
لم تأتِ إسرائيل من فراغ، بل تأسست بوعد رسمى من بريطانيا على لسان وزير خارجيتها آرثر بلفور، الذى أعلن فى 2 نوفمبر 1917 دعم بلاده إنشاء "وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين"، رغم أن فلسطين آنذاك كانت تحت السيادة العثمانية، وتضم أقلية يهودية صغيرة. وجه الوعد إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الجالية اليهودية فى بريطانيا، بهدف تمريره إلى الاتحاد الصهيونى.
بالتوازى، بعد أقل من عقد، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، على يد حسن البنا. ولم تكن النشأة عفوية أو عشوائية، بل تشير مذكرات البنا نفسه إلى تلقيه دعماً مالياً من شركة قناة السويس – التى كانت خاضعة للإدارة البريطانية – لبناء مسجد ومدرسة، شكلا البذرة الأولى للجماعة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت بريطانيا استغلال هذا الكيان الدينى- السياسى لخدمة مصالحها فى المنطقة.
الأدوات مختلفة، لكن الهدف واحد.
قد يبدو من السطح أن إسرائيل تمثل مشروعاً استيطانياً، بينما جماعة الإخوان جماعة دينية إصلاحية، لكن قراءة عميقة تكشف عن تشابه فى البنية الوظيفية، فكلاهما يعمل على إعادة رسم خريطة المنطقة، كل بطريقته.
إسرائيل تزعزع الجغرافيا بالعدوان والاحتلال، بينما الإخوان يزعزعون البنية الاجتماعية والسياسية من الداخل، بتفكيك الدولة الوطنية وتحويل العقيدة الدينية إلى أداة صراع سياسى، وهو ما يخدم الهدف الأكبر، الإبقاء على المنطقة فى حالة توتر مزمن.
لم تكن العلاقة بين بريطانيا والإخوان علاقة عابرة. ففى فترات متعددة، رأت بريطانيا فى الجماعة أداة لمواجهة المد القومى فى العالم العربى، بل استقبلت قياداتها الفارين من بلدانهم، ووفرت لهم الغطاء السياسى والإعلامى، ومقرات للتنظيم الدولى فى لندن.
أكثر من ذلك، كشفت وثائق بريطانية عن استخدام الجماعة فى الحروب النفسية والدعائية ضد خصوم بريطانيا فى الشرق الأوسط، خاصة خلال الحرب الباردة، فى مواجهة الاتحاد السوفيتى وأنظمة عربية بعينها.
نعم هناك اختلاف فى الشعارات، لكن هناك تشابهاً فى الوظيفة.
إسرائيل ترفع شعار "الدولة اليهودية"، والإخوان يرفعون شعار "الإسلام هو الحل"، ولكن كليهما يتجاوز الدولة الوطنية، ويعمل على إعادة تشكيل المجتمع وفق مرجعية إقصائية، سواء دينية أو أيديولوجية.
فى الحالتين، لا وجود للاعتراف بالتعدد، ولا قبول بفكرة "الدولة المدنية". وكلاهما يعتبر نفسه صاحب رسالة فوق الدولة، وفوق المجتمع.
من التحالف إلى التوتر... لكن الأصل لا ينسى.
بمرور الوقت، بدأت العلاقة بين الغرب والإخوان تدخل منطقة التوتر، خاصة بعد أن تحولت الجماعة إلى عبء أمنى فى الداخل الأوروبى، لكنها رغم ذلك لم تفقد شبكاتها أو دعمها الناعم فى بعض العواصم الغربية.
أما إسرائيل، فرغم اختلافاتها مع بعض القوى الغربية، لا تزال تحتفظ بمكانتها كحليف استراتيجى، وجزء من منظومة المصالح الغربية فى المنطقة.
الحقيقة خلف الأقنعة.
نعم حين تنزع الأقنعة، وتقرأ التاريخ بشكل جيد، ستكتشف أن إسرائيل والإخوان – رغم اختلافهما فى الشكل والطرح – هما توأمان سياسيان خرجا من رحم بريطانيا، لخدمة مشروع واحد، تفتيت الشرق الأوسط، وتفجير المجتمعات من الداخل. إسرائيل بالبندقية والدبابة، والإخوان بالمنبر والخطاب الأيديولوجى.
قد تختلف الطرق، لكن الهدف واحد... وحين تعرف من هو "الرحم"، تدرك من رضع من الحليب نفسه.