من المسكنات إلى الحلول الجذريه :
الاقتصاد المصري يبحث عن التوازن
على مدار السنوات الماضية، خاضت الدولة المصرية معركة إصلاح اقتصادي شاملة، تم خلالها مراجعة كثير من الملفات التي كانت تستنزف موارد الدولة وتهدر العدالة الاجتماعية. وعلى رأس تلك الملفات، جاءت قضية الدعم، التي طالما شكلت عبئًا ثقيلًا على الموازنة العامة، بينما كانت تُدار في كثير من الأحيان بآليات تفتقر إلى الكفاءة والشفافية.
وقد نجحت الدولة، بحكمة قيادتها وشجاعة قرارها، في الاقتراب من هذه القضايا الشائكة بحس وطني عالٍ، فتم إعادة هيكلة دعم القضايا والخبز، وتوجيهه تدريجيًا إلى مستحقيه الفعليين، وهو ما تفهمه الشعب المصري وتحمله برضا لافت، إيمانًا منه بضرورة الإصلاح وهيبة الدولة.
غير أن ما يدعو للاستغراب، هو أن هذا الهدوء والتفهم لم ينعكس بنفس القدر عند الاقتراب من ملف دعم الصادرات. فعلى العكس، ما إن اقتربت يد الإصلاح من إعادة توجيه هذا الدعم، حتى تعالت الأصوات، وارتفعت حدة الاعتراضات، وكأن هذا الملف لا يخضع لنفس معايير الشفافية والعدالة والجدوى الاقتصادية!
وإحقاقًا للحق، ومن منطلق الأمانة العلمية والوطنية، يجب طرح عدة تساؤلات جوهرية في هذا السياق:
أولًا: من هم المستفيدون الفعليون من دعم الصادرات؟
تشير الوقائع إلى أن النسبة الأكبر من مستفيدي دعم الصادرات، خاصة في قطاعات مثل الملابس الجاهزة والمنسوجات، هم من المستثمرين الأجانب، وليسوا من أبناء هذا الوطن. ونتحدث هنا عن مستثمرين أتراك، وهنود، وبنغال، وصينيين، يجنون الملايين من الجنيهات تحت بند "دعم صادرات"، في حين تُموّل هذه الأموال من خزانة الدولة، أي من جيوب المواطنين المصريين!
ثانيًا: هل حقق هذا الدعم أهدافه؟
دعم الصادرات يفترض أن يكون آلية لتحفيز الصناعة الوطنية، وزيادة تنافسية المنتج المصري في الأسواق العالمية، وخلق فرص عمل، وتحقيق إيرادات دولارية مستدامة. لكن عند تقييم هذا الدعم في ضوء النتائج، نجد أن الصورة مختلفة تمامًا: لم يتحقق الهدف التنموي المرجو، ولم تُبنَ قاعدة وطنية من المصدرين المصريين القادرين على قيادة قاطرة الاقتصاد.
ثالثًا: أليس من الأجدى إعادة توجيه هذا الدعم؟
ما الذي يمنع أن تُوجه تلك المليارات التي تُضخ سنويًا إلى فئة محدودة من الأجانب والمصدرين الكبار، نحو تمويل برامج طموحة لريادة الأعمال؟ أليس الأجدى أن نخلق طبقة جديدة من المستثمرين المصريين، الشباب، الذين يحملون الحلم والرؤية والقدرة على توطين الصناعة ورفع شعار "صنع في مصر"؟ إن دعم الصادرات في صورته الحالية يكرّس لفكرة "اقتصاد الامتيازات"، وليس "اقتصاد القيمة المضافة".
رابعًا: امتيازات مفرطة بلا رقابة
المستفيدون من دعم الصادرات لا يكتفون بالدعم النقدي، بل يحصلون أيضًا على إعفاءات ضريبية وجمركية غير مسبوقة، ويستفيدون من اتفاقيات دولية مثل الكويز، والكوميسا، والشراكة الأوروبية، واتفاقات تبادل مع تركيا والدول العربية، وهي امتيازات لا تمنحها كثير من الدول لمستثمريها، ومع ذلك نجد من يشتكي كلما تم التفكير في إعادة التقييم أو ترشيد المخصصات!
خامسًا: هل تم خلق وظائف بأجور عادلة؟
ما يحدث فعليًا أن معظم هذه المصانع تُدار بأيدٍ عاملة أجنبية تم استقدامها من الخارج، بأعداد تثير التساؤلات، بينما يعاني الشباب المصري من بطالة مقنعة، وأجور متدنية لا تكفي للحد الأدنى من الحياة الكريمة. فهل هذا هو "الاستثمار المنتج" الذي يحقق التنمية المستدامة؟
سادسًا: أين العملة الصعبة؟
من المفترض أن الصادرات تدر على الدولة العملة الصعبة، لكن الواقع يشير إلى أن الكثير من العوائد لا تدخل الدورة الاقتصادية الرسمية، ويتم استبدالها بالجنيه المصري خارج القنوات المشروعة، بل وتتحمل الدولة عبئًا إضافيًا لتحويل أرباح المستثمرين للخارج، بجانب استيراد أغلب مستلزمات الإنتاج، ما يجعل هذا النوع من التصدير أقرب إلى "تغليف وإعادة تصدير"، وليس إنتاجًا حقيقيًا.
سابعًا: شبهات فساد وتلاعب ممنهج
لقد طال دعم الصادرات العديد من الشبهات التي لم تُغلق ملفاتها بعد، من بينها تضخيم فواتير الصادرات للحصول على دعم أكبر، أو تصدير منتجات وهمية، أو حتى استغلال الدعم لتغطية أنشطة غير قانونية، كقضية دعم الشاي المستورد، وقضية تهريب الآثار في حاويات الأثاث، وهو ما يعرفه الجميع دون استثناء، ومع ذلك لا تزال الصنابير مفتوحة.
نحو مراجعة شاملة بلا استثناءات
إن دعم الصادرات في صورته الحالية بحاجة إلى مراجعة حقيقية، شاملة، وعادلة، تُراعي الصالح العام لا مصالح قلة منتفعة. والمراجعة لا تعني إنهاء الدعم كليًا، ولكن تعني ربطه بنتائج واضحة، وفترة زمنية محددة، وجدوى اقتصادية قابلة للقياس، وأن يُخصص في المقام الأول لدعم الصناعات الوطنية القادرة على توليد فرص عمل محلية وتحقيق عائد دولاري حقيقي.
فأساس التجارة الدولية هو المزايا النسبية والتخصص، لا الدعم الدائم والمفتوح. والمنتج الذي لا يستطيع المنافسة في السوق الحر دون إعانة الدولة، لا يستحق البقاء على قيد الحياة الاقتصادية. فالسوق ليس دار رعاية، والدولة ليست مسؤولة عن دعم الفاشلين على حساب مصلحة الوطن والمواطن.
الختام: الشفافية والعدالة معيار الإصلاح الحقيقي
لقد أثبتت الدولة المصرية، بقيادتها الرشيدة، قدرتها على اتخاذ قرارات إصلاحية جريئة، وتحملت تبعاتها بشجاعة، وساندها الشعب في ذلك. وحان الوقت لأن يُخضع ملف دعم الصادرات لنفس المنطق، بعيدًا عن الضغوط، وبمنتهى الشفافية والعدالة، لأن الوطن ليس حكرًا على أحد، والمال العام أمانة لا تحتمل المزاح.
فالإصلاح الهيكلي للاقتصاد لا يكتمل إلا عندما تكون كل السياسات، دون استثناء، موجّهة لخدمة المواطن المصري أولًا وأخيرًا.