حروب الوكالة.. صراع لم ينتهِ
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة، لا تزال تداعياتها ترسم ملامح العلاقات الدولية حتى اليوم. فعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعرف استقرارًا حقيقيًا، بل عاش في ظل صراع عالمي من نوع مختلف، أُطلق عليه مصطلح “الحرب الباردة”، حيث لم تُطلق فيه الجيوش الكبرى النار على بعضها، لكن كانت النيران مشتعلة في عواصم أخرى، عبر ما يُعرف بـ”حروب الوكالة”.
وكانت نقطة البداية: ما بعد الحرب العالمية الثانية
ففي عام 1945، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان، برزت قوتان عالميتان تتقاسمان النفوذ الدولي: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. لم تكن الأهداف متطابقة، بل كانت متناقضة تمامًا. واشنطن تقود المعسكر الرأسمالي، وموسكو تقود المعسكر الشيوعي. ورغم أن الحرب بينهما لم تكن مباشرة، إلا أن العالم انقسم لنصفين: معسكر غربي وآخر شرقي.
و في ظل الخوف من المواجهة النووية، لجأ الطرفان إلى ما يسمى بـ”حروب الوكالة”. فبدلاً من أن تتصادم أمريكا وروسيا مباشرة، دعمت كل منهما أطرافًا محلية في نزاعات داخل دول أخرى.
ومن أبرز هذه الحروب:
• كوريا (1950–1953): انقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى شمال شيوعي مدعوم من الصين والاتحاد السوفيتي، وجنوب رأسمالي مدعوم من أمريكا. انتهت الحرب بتقسيم ما زال قائمًا حتى اليوم.
• فيتنام (1955–1975): أمريكا دخلت الحرب بشكل مباشر ضد القوات الشيوعية الفيتنامية المدعومة من موسكو وبكين، لكنها خرجت في النهاية بخسائر فادحة، وسقطت سايغون في يد الشيوعيين.
• أفغانستان (1979–1989): تدخل الاتحاد السوفيتي بقواته لدعم الحكومة الشيوعية، بينما دعمت الولايات المتحدة “المجاهدين” بأسلحة وتدريبات، في حرب أرهقت موسكو وكانت من أسباب انهيارها لاحقًا.
• أفريقيا وأمريكا اللاتينية: الصراع امتد إلى أنغولا والكونغو ونيكاراغوا وغيرها، حيث كانت كل قوى عظمى تدعم فصيلًا ضد الآخر.
وضمع سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ظنّ كثيرون أن صفحة الحرب الباردة طُويت إلى الأبد. لكن الأحداث أثبتت أن نمط “حروب الوكالة” لا يزال قائمًا، بل تطور مع الزمن، متخذًا أشكالًا جديدة ومختلفه لكنها بنفس الهدف
وفي 2025، تتكرر مشاهد الأمس، وإن اختلفت الجغرافيا وتغيّرت الأدوات:
• سوريا واليمن: أصبح كلا البلدين ساحة لصراع إقليمي ودولي، تتداخل فيه أطراف مثل إيران، تركيا، روسيا، وأمريكا. يدعم كل طرف جماعة أو حكومة، بينما يتحمل المدنيون الكلفة الأكبر.
• أوكرانيا: ورغم أن الحرب الحالية فيها تبدو مواجهة مباشرة بين موسكو وكييف، إلا أن الدعم العسكري الأمريكي والأوروبي الواسع يجعل من الصراع شبه مواجهة بالوكالة مع روسيا.
• الصين والغرب: الصراع لم يعد عسكريًا فقط، بل أصبح اقتصاديًا وتكنولوجيًا، كما في النزاع حول تايوان، أو ما يعرف بـ”حرب الرقائق الإلكترونية”.
• أفريقيا من جديد: تشهد القارة صراع نفوذ متجدد، حيث تتنافس قوى مثل روسيا، الصين، أمريكا وفرنسا على بسط السيطرة عبر الدعم العسكري أو الاستثمارات
واليوم لم تعد حروب الوكالة تقتصر على البنادق والطائرات، بل دخلت فيها أدوات جديدة:
• الحرب السيبرانية (الاختراق والهجمات الإلكترونية)
• الحرب الإعلامية وتضليل الرأي العام عبر الإنترنت
• الضغوط الاقتصادية مثل العقوبات والحصار
• الذكاء الاصطناعي كأداة تجسس وتنبؤ واتخاذ قرار والبقية تأتي
خلاصة المشهد إذا.
ان الحرب الباردة بصورتها القديمة انتهت، لكن صراع القوى لم يتوقف. فقط، تغيرت أدواته، وتعددت ساحاته، لكن النتيجة واحدة: دولٌ تُستخدم كورقة في لعبة أكبر، وشعوبٌ تدفع ثمن صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل.
في النهاية، يبقى السؤال: هل يتعلم العالم من دروس التاريخ؟ أم أن الماضي سيظل يعيد نفسه بأسماء وعناوين جديدة؟