أمجد مصطفى يكتب : زياد الرحبانى .. نغمة جديدة تودعنا

وانكسر وترٌ كان لا يزال يعزف الحقيقة فى زمن النشاز
اليوم... نغمة جديدة تودعنا، أو بالأحرى، نودّع نغمة كانت تحمل روح التمرد، والصدق، والعذوبة.
رحل زياد عاصى الرحبانى، الابن الشرعى للرحبانية، ليس فقط بالنسب بل بالفكر، بالأسلوب، وبالإيمان بأن الموسيقى ليست فقط عزفًا، بل موقف... وهو كان الموقف كله.
اليوم، تعيش السيدة فيروز وجعًا مضاعفًا برحيل الموسيقار الذى حمل على عاتقه الصمود معها وبها فى وجه تدهور الغناء العربى.
اليوم، تواجه مأساة فقدان الابن... جزءٌ من روحها قد رحل، ولن يعود.
زياد الرحبانى... ذاك الفنان الذى نطق بما يُقال سرًّا، وصرخ بما يهمس به الآخرون، ومشى عارى الصوت فى حقول الألغام دون أن يرتجف.
فنان قال جهارًا ما لم يجرؤ كثيرون على قوله همسًا، وجعل من صوته مرآةً لعقله، لا لحسابات الخوف أو المجاملة.
برحيل زياد الرحبانى، سقط حرف آخر من نوتة الزمن الجميل الموسيقية... وانكسر وترٌ كان لا يزال يعزف الحقيقة فى زمن النشاز.
برحيل زياد، انطفأ صوتٌ كان يُكمّل الجملة الموسيقية الناقصة فى وجداننا... وسقط حرفٌ من أبجدية اللحن العربى، لا يعوّضه صمت ولا ضجيج.
رحل فنان ولد من رحم العبقرية، من بيت كانت حيطانه تتنفس نغمًا، فشبّ ليحمل راية التجديد بعد رحيل الأخوين عاصى ومنصور. لم يكن تلميذًا عاديًّا فى مدرستهما، بل كان امتدادًا حيًّا، دمًا جديدًا فى شجرة الرحابنة. لكنه لم يكن نسخة؛ كان هو، زياد، الجريء، المختلف، الذى قال كلمته دون خوف، وعزفها بأصابع من نار ووجدان.
من صوت أمه، السيدة فيروز، كتب زياد سطوره الأولى.
ومعها، أعاد تعريف معنى الغناء العربى الحديث. تلك الشراكة النادرة بين أم وابن، بين قامة وقيمة، كانت صرحًا فنيًّا لم يتكرر. حمل معها الحلم بعد رحيل الأب، وصمدا معًا فى وجه «تلوث الغناء»، كما كان يسميه. لم يجامل، ولم يساير، ولم يترك المايكروفون لغير النغمة الصادقة.
رحل زياد، وترك فيروز حزينة، لا كأم فقط، بل كفنانة فقدت الرفيق والأمل.
جزء من روحها انكسر. من سيتحمل الآن عبء الحفاظ على هيبة الغناء؟ من سيقف فى وجه الرداءة كما كان يفعل؟ من سيقول: «لا»، حين يقول الجميع «نعم» للموجة السائدة؟
كان زياد فنانًا إنسانًا بامتياز. حاد الذكاء، قاسيًا أحيانًا، لكنه صاحب قلب نابض بالقضية. قضيته كانت الإنسان العربى، يومياته، همومه، انكساراته. لم يغنِّ فقط للحب، بل غنّى للحزن، للطبقة المهمشة، للشارع، للمقهى، للبيت الصغير الذى يسكنه الفقراء.
كان موسيقيًّا لا يلتزم بالقوالب، بل يكسرها ليصنع قالبًا خاصًّا.
دمج الجاز بالموال، المزمار بالبيانو، جعل من الأغنية مشهدًا مسرحيًّا، ومن اللحن موقفًا فكريًّا. كتب المسرح وغنّى فيه، وأعطى للكلمة المقهورة منصة تتكلم منها. لم يكن الغناء عنده مجرد طرب، بل مشروع مقاومة فنية.
زياد لم يكن فنانًا «مرضيًّا عنه» من كل الأنظمة، ولا محبًّا للنجومية بمعناها السطحى، لكنه كان محبوبًا من الناس الحقيقيين، أولئك الذين كانوا يشعرون بأن أغانيه تشبههم، تتحدث عنهم، وتحتج لأجلهم.
اليوم، تبكيه بيروت الحقيقية... بيروت التى يعرفها جيدًا، بيروت التى كتب عنها كثيرًا ولم تتغير، سوى أنها اليوم فقدت صوتًا صادقًا آخر.
رحل زياد، وبقيت موسيقاه، كأنها تقول: «أنا لم أمت بعد».
لكننا نعلم أن نغمةً كبيرةً، ذكيةً، نادرةً، غادرتنا... وها نحن نحاول أن نكمل الاستماع فى غيابه.
زياد الرحبانى... نغمة التمرد وضمير بيروت
زياد الرحبانى، المولود فى الأول من يناير عام 1956، يُعدّ من أبرز المجددين فى الموسيقى العربية والمسرح السياسى الساخر. ابن السيدة فيروز، أيقونة الغناء العربى، والموسيقار الراحل عاصى الرحبانى، نشأ فى بيت تنبض جدرانه بالإبداع، لكنه لم يكتف بأن يكون امتدادًا للرحابنة، بل صاغ لنفسه هوية فنية متفردة جمعت بين الحس الموسيقى العميق، والسخرية السوداء، والنقد السياسى الجريء.
تميّز زياد بمسرحياته اللاذعة التى عكست الواقع اللبنانى بصيغة ساخرة وذكية، فكانت أعماله مرآة للشارع، تنبض بتحليل اجتماعى وسياسى حاد، لا يخلو من الطرافة المرّة. أما فى الموسيقى، فكان رائدًا فى إدخال أنماط الجاز والموسيقى الغربية إلى المقامات الشرقية، مانحًا الأغنية العربية بُعدًا حداثيًا غير مسبوق.
لم يكن زياد فنانًا فقط، بل كان صوتًا سياسيًا صريحًا؛ تبنّى الفكر اليسارى، وانحاز لقضايا الفقراء والمهمشين، وجعل من فنه منصة للنقد والاحتجاج. عبر موسيقاه ونصوصه، فضح التناقضات، وواجه القمع، ووثّق صراع الإنسان العربى فى زمن الحرب والانهيار والخذلان.
عاش زياد الرحبانى متمردًا على القوالب، حرًّا فى فكره كما فى فنه. لم يكن مبدعًا مسرحيًّا وشاعرًا وموسيقارًا فقط، بل كان أيضًا وجهًا سياسيًّا صريحًا لا يعرف المهادنة. تجلت مواقفه الجريئة فى مناسبات عدة، أبرزها مشاركته فى مهرجان الذكرى الـ82 لتأسيس الحزب الشيوعى اللبنانى، حيث ألقى كلمة إلى جانب الأمين العام، داعيًا إلى إعادة هيكلة الحزب، ومؤكدًا انتماءه العميق بقوله: «الشيوعى لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت». وأضاف ساخرًا: «من خرج، كان يجب أن يخرج».
أما زياد الكاتب الصحفى، فقد حمل قلمه بنفس الروح التى عزف بها موسيقاه. كتب فى عدد من الصحف اللبنانية منها النداء والنهار فى سنوات حسّاسة خلال الوجود السورى فى لبنان، حيث تميزت مقالاته بحدة التعبير، وعمق التوصيف، وجرأة لا تعرف التحايل، كما انضم إلى أسرة جريدة الأخبار مع انطلاقتها، دعمًا لمشروع صحفى جديد فى زحام الإعلام اللبنانى، وواصل الكتابة فيها من خلال زاويته «مانيفستو»، التى كانت مساحة حرة يعبّر فيها عن مواقفه، ويصف الواقع كما هو، دون تزييف أو تجميل.
زياد الرحبانى لم يكن صوتًا منفردًا فى عالم الفن، بل كان تيارًا كاملًا... حالة فنية وفكرية نادرة، قاومت الانكسار، وغنّت للحرية، وواجهت السائد بلا تردد.
أعمال خالدة... مسرح يغنى وموسيقى تفكر
ترك زياد الرحبانى إرثًا فنيًّا زاخرًا ومتنوعًا، امتد من خشبة المسرح إلى ستوديوهات التسجيل، مرورًا بالميكروفون والصحافة والمقهى السياسى. فى كل مساحة دخلها، صنع بصمة لا تُشبه أحدًا.
فى المسرح
شكّلت مسرحيات زياد الرحبانى حجر أساس فى المسرح العربى الحديث، وخصوصًا المسرح السياسى الساخر.
«بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) من أشهر مسرحياته، وقد شكّلت تحولًا فى المسرح اللبنانى بجرأتها وسخريتها السوداء وطرحها لأسئلة وجودية.
«فيلم أمريكى طويل» (1980) نقد لاذع للواقع اللبنانى والحرب الأهلية، بلغة تمزج بين الحزن والسخرية والواقعية السياسية.
«بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993) عمل سياسى عميق يحاور المواطن العربى فى زمن الإحباط.
«نزل السرور»، «لولو»، «صيف 840» وغيرها من الأعمال التى تعاون فيها مع فيروز، وقدمت مزيجًا من الدراما والغناء والرؤية السياسية.
فى الموسيقى والغناء
كمؤلف موسيقى، قدّم زياد الرحبانى عشرات الألحان التى غنّاها بصوته أو قدّمها لأصوات أخرى، أبرزها والدته فيروز، وتنوعت موسيقاه بين الكلاسيكى والجاز والموسيقى الشرقية الحديثة.
لحن لفيروز أغانى مميزة مثل
سألونى الناس
«كيفك إنت»
«بكتب اسمك يا حبيبي»
«ولما عالباب»
«عودك رنان»
«مش كاين هيك تكون»
وقدم بصوته أغاني أيقونية مثل:
«أنا مش كافر»
«اسمعى يا بنت»
«عايش وحدي»
«شو هالأيام»
الأسلوب الموسيقي:
تميّزت موسيقاه بدمج الجاز والبلوز والموسيقى الغربية مع المقامات الشرقية، كما استخدم الهارمونى والتوزيع الموسيقى بأسلوب سينمائى، جعل من أغانيه مشاهد مسرحية كاملة، فيها طرافة ووجع، وفلسفة.
بين الألبومات والحفلات... مسيرة لا تُختصر
على مدار عقود، قدّم زياد الرحبانى مجموعة من الألبومات والأعمال الموسيقية التى أصبحت مرجعًا لجيل كامل من المستمعين والموسيقيين. لم يكن هدفه الطرب المجرد، بل كان يسعى دائمًا إلى خلق حالة فكرية وفنية توازى اللحظة الاجتماعية والسياسية التى تعيشها بيروت والعالم العربى.
ألبوماته مثل «هكذا غنّى زياد»، و**«مونودوز»، و«أنا مش كافر»**، حملت بصمته الواضحة من حيث الأسلوب والتوزيع، وامتازت بالانحياز التام للناس العاديين، وللهموم اليومية، وللسخرية من المنظومات الفاسدة. الأغنية عنده ليست لحظة طرب بل لحظة وعى.
كما اشتهرت حفلاته الحية بجمالها وصدقها، حيث كان الجمهور يذهب ليس فقط ليستمع، بل ليتنفس شيئًا من الصدق فى زمن التكرار. حفلاته التى أقيمت فى لبنان، وسوريا، وأوروبا، كانت دائمًا محطات استثنائية، تشهد على عمق العلاقة بين زياد وجمهوره.
زياد الرحبانى لم يكن مشروعًا فنيًّا عابرًا، بل كان مؤسسة فكرية وموسيقية قائمة بذاتها... مدرسة كاملة فى التمرّد، فى الرؤية، فى صناعة الفن الملتزم. واليوم، بعد رحيله، لا تزال أعماله تنبض بالحياة، كأنها تقول لنا: «أنا لم أكن أؤلف أغانى فقط، بل أدوّن التاريخ... بصوت، ونغمة، وسخرية جارحة».
........
من المسرح إلى فيروز... محطات فنية لا تُنسى
بدأ زياد الرحبانى خطواته المسرحية مبكرًا، وكانت مسرحية «المحطة» هى بدايته الأولى فى عالم الكتابة المسرحية. ثم توالت أعماله التى مزجت بين النقد السياسى الساخر، والواقعية المرّة، والكوميديا السوداء، لتشكل علامات فارقة فى المسرح العربى الحديث.
ومن أبرز مسرحياته، مرتبة زمنيًّا:
«سهرية» (1973): أولى تجاربه المسرحية الجادة، وفيها ظهرت ملامح سخريته اللاذعة.
«نزل السرور» (1974): نقد اجتماعى عميق فى قالب كوميدى.
«بالنسبة لبكرا شو؟» (1978): الأشهر والأكثر تأثيرًا، وتُعد مرآة للواقع اللبنانى المهزوم.
«فيلم أمريكى طويل» (1980): هجاء للحرب الأهلية بلغة سينمائية ومسرحية معًا.
«شى فاشل» (1983): عمل تأملى نقدى يعكس التناقضات الاجتماعية والسياسية.
«بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993): مسرحية سياسية مباشرة تنطق بلسان الشارع.
«لولا فسحة الأمل» (1994): استمرار للنهج المسرحى المقاوم.
«الفصل الآخر»: الجزء الثالث من «بخصوص الكرامة»، وفيه تعمق زياد أكثر فى تحليل الفشل الجمعى.
أما على صعيد التعاون مع والدته، السيدة فيروز، فقد كان زياد ملهمًا حقيقيًّا لجيل جديد من أغانيها، حيث منح صوتها الشهير بُعدًا جديدًا من الجرأة والحميمية، وكتب ولحن لها عشرات الأغنيات التى أصبحت جزءًا من الذاكرة العربية.
من أبرز أغانيه لفيروز:
أنا عندى حنين – حبيتك تنسيت النوم – البوسطة – عندى ثقة فيك – مش قصة هاى – بعتلك – ضاق خلقى – سلملى عليه – عودك رنان – سألونى الناس – قديش كان فى ناس – نطرونا – حبو بعضن – يا جبل الشيخ
كما وضع موسيقى مقدمة مسرحيتى «ميس الريم» و«بترا».
وفى الإصدارات الغنائية، حملت ألبوماتها المشتركة توقيعه الكامل كتابةً وتلحينًا، منها:
«وحدن» (1979)
«معرفتى فيك» (1987)
«كيفك إنت» (1991)
«إلى عاصي» (1995)
«مش كاين هيك تكون» (1999)
«فيروز فى بيت الدين» (2000)
«ولا كيف» (2001)
«إيه، فى أمل» (2010)
كما كتب ولحن لمطربين وممثلين رافقوا تجربته المسرحية والموسيقية، أبرزهم جوزيف صقر، الصوت الأيقونى الذى ارتبط بأعماله، وكذلك سامى حواط، وسلمى مصفى، وغيرهم ممن حملوا رؤيته إلى خشبة المسارح وموجات الراديو.
< إرث لا يموت... زياد بين الأمس والغد
لم يكن زياد الرحبانى مجرّد فنان مرّ فى الزمن العربى المتقلب، بل كان شاهدًا عليه، وناقدًا له، بلغة لا تُشبه إلا نفسها. هو من أولئك القلائل الذين لم يقبلوا أن يكونوا ديكورًا فى مشهد ثقافى استهلاكى، فاختار أن يكون فى قلب الصراع، منحازًا للناس، للفقراء، للمقهورين، وللحقيقة.
فى زمن اختلط فيه الفن بالتسويق، والصوت بالضجيج، والكلمة بالشعارات الفارغة، ظل زياد يقاوم بلحن جاد، ونص ساخر، وموقف لا يعرف المساومة. ترك خلفه أرشيفًا من الأعمال التى لا تُستهلك، بل تُعاد قراءتها فى كل زمن، لأنها ولدت من وجدان شعبى نقيّ، ومن حسّ نقدى عميق.
وربما، كان يعرف أن فنه سيعيش أطول منه... أن البيانو سيظل يعزف بعده، وأن الضحكة الساخرة التى زرعها فينا ستتحول إلى دمعة دافئة كلما تذكرناه. فرحل جسدًا، وبقى أثره، مدرسة كاملة فى الفن، فى الموقف، فى الإنسان.
إن إرث زياد الرحبانى ليس محفوظًا فى الأشرطة والأسطوانات فقط، بل فى كل من تعلّم منه كيف تكون الكلمة موقفًا، واللحن سلاحًا، والضحك وسيلة للنجاة من القهر. سيظل حيًّا فى الجيل الذى لا يزال يبحث عن معنى، فى كل فنان يرفض التصفيق السهل، وفى كل من لا يزال يردد: «أنا مش كافر... بس الجوع كافر».
كتب الصديق اللبنانى حسام عبدالخالق على صفحته الشخصية جملة تختصر وجع الأم فى بلده لبنان، وعبّر بها عن فيروز التى فقدت ابنها زياد، أردت أن أختم بها فقال:
«ببلادنا بتقول الأم لابنها: تقبرنى، كأصدقك وأسمى معنى للحب. من كتر حبها، بيصير كل رجائها بالحياة إنها تموت قبله ويقبرها وما تشهدله أى مكروه قبل موتها».
كلمات بسيطة، لكنها تترجم أعمق مشاعر الأمومة فى ثقافتنا، تلك الأمنية العجيبة التى تنقلب فيها فطرة الحياة… فكل أم، إذا أحبت بصدق، كل مناها من الدنيا ألّا ترى بأمّ عينيها لحظة ألم ابنها أو رحيله.
وهذا ما لم يتحقق لفيروز.
فرأت النور الذى وهبته للعالم يُطفأ أمامها، وذابت النغمة الأخيرة فى صمت الغياب
اليوم نبكيه لكننا سنظل نردد اغانيه.