قرى تبحث عن الحياة

طرق غير ممهدة، ومنازل طينية متصدعة، ومرافق غائبة، هذا هو حال آلاف القرى المصرية، واقع صعب لا يليق بكرامة الإنسان ولا يتماشى مع أبسط مقومات العيش الكريم، فعلى أطراف المدن وفى قلب الريف المصرى يعيش الاهالى نقصا حادا فى الخدمات الأساسية، مياه غير صالحة للشرب، صرف صحى بدائى أو غائب تمامًا، وحدات صحية خاوية إلا من الجدران، ومدارس بلا إمكانيات حقيقية، ما يهدد حاضر الأهالى ويقضى على آمال أبنائهم فى مستقبل أفضل.
تتحول مطالب المواطنين فى هذه القرى إلى أحلام مؤجلة، لا تتجاوز الحصول على كوب ماء نظيف، أو وسيلة مواصلات آمنة، أو طبيب متواجد فى الوحدة الصحية، فى ظل غياب رقابة حقيقية وتراجع أولويات التنمية عن هذه المناطق التى تمثل قلب مصر النابض، وبرغم ما يقال عن خطط التطوير والمبادرات الحكومية، لا يزال أهل الريف يواجهون وحدهم واقعًا قاسيًا يعكس فجوة حادة بين ما يُقال وما يُنفذ.
الدقهلية
«أتميدة» تشكو النسيان
تعانى العديد من قرى محافظة الدقهلية من إهمال مزمن وتهالك فى البنى التحتية الحيوية. يشمل ذلك مشاكل فى مياه الشرب، وضعف فى خطوط الهاتف، وانتشار وتراكم القمامة فى الشوارع الرئيسية والجانبية، بالإضافة إلى تهالك الطرق وعدم رصفها، وضعف الإنارة، ما يؤدى إلى تفاقم الأزمات المعيشية لسكان هذه القرى.
فى قرية أتميدة التابعة بمركز ميت غمر، سادت حالة من الطوارئ بين الأهالى بسبب الانقطاع المستمر لمياه الشرب وضعف ضخ المياه. تفاقمت الأزمة بشكل ملحوظ خلال الأيام الماضية، حيث تنقطع المياه معظم فترات النهار، ما يجبر الأهالى على ملء الخزانات ليلاً لتلبية احتياجاتهم الأساسية. نظم العشرات من أهالى القرية وقفة احتجاجية أمام مدينة ميت غمر، معبرين عن غضبهم من نقص مياه الشرب، مؤكدين أن المياه شحيحة حتى باستخدام مواتير الرفع.
ناشد الأهالى اللواء طارق مرزوق، محافظ الدقهلية، التدخل الفورى والعاجل لحل مشكلة الانقطاع الدائم لمياه الشرب بالقرية، ومراعاة متطلبات واحتياجات الأطفال والشيوخ. ويتساءل الأهالي: «إلى متى تظل معاناة أهل أتميدة وغياب الاهتمام الشامل؟» ويؤكدون أن «جميع أبناء قرية أتميدة يعانون من العطش منذ شهر، حيث انقطعت مياه الشرب دون سابق إنذار، وأصبحنا نحن وأطفالنا لا نجد الماء سواء للشرب أو الاستحمام».
وبجانب أزمة المياه، تسود حالة من الاستياء الشديد بسبب انتشار القمامة وتراكمها داخل الشوارع الرئيسية والجانبية، وسط تجاهل من الوحدة المحلية للقرية. تحولت شوارع القرية إلى «صندوق قمامة كبير»، ما ينشر الروائح الكريهة ويؤدى إلى انتشار جيوش الذباب والبعوض، مهددًا بذلك الصحة العامة للمواطنين.
فى سياق متصل، اشتكى المئات من الأسر فى قرية أتميدة، ممن يقطنون فى منازل مقامة على أملاك الدولة، من قرارات إدارة أملاك الدولة بمحافظة الدقهلية برفع أسعار أراضى أملاك الدولة بشكل مبالغ فيه وإصدار تقديرات جزافية لا تراعى الظروف الاقتصادية للسكان. فقد تم تقدير سعر المتر بأكثر من 3000 جنيه، ما يهدد هؤلاء الأهالى بالطرد أو السجن.
وعبر الأهالى عن استيائهم الشديد من هذا القرار الذى يرفع قيمة الأراضى التى تمثل المأوى لهم ولأولادهم. وقال الأهالي: «أصبحنا مهددين بالطرد من المنازل، وسط تجاهل تام لاستغاثاتنا ورفض التقديرات الجزافية للجنة تثمين أراضى الدولة». هذه العبارات عكست حالة القلق التى تسيطر على أهالى قرية أتميدة بعد تقدير لجان التثمين لسعر المتر بشكل مرتفع للغاية، دون مراعاة أن هذه المنازل ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، أو ظروفهم الاجتماعية المتردية.
وأوضح أهالى قرية أتميدة أنهم يعيشون فى هذه المنازل منذ عدة سنوات على أراضٍ كانت بحق انتفاع (أملاك دولة)، توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، نظير حق انتفاع. وأشاروا إلى أن «الدولة تمد يد العون لآلاف المواطنين، لكننا نعيش تحت خط الفقر. وبسبب ما حدث فى فبراير، بحاجتنا لرفع أملاكنا، تم رفع سعر الأرض إلى عشرة أضعاف سعرها السابق منذ عقود عديدة، ونحن الآن مهددون بالطرد والتشريد، ولم تلق شكاوانا آذانًا صاغية من المسئولين لعدم قدرتنا على الدفع».

قنا
حملات ممنهجة تستهدف المساحات الخضراء بمدينة نجع حمادى
تشهد مدينة نجع حمادى بمحافظة قنا حملة ممنهجة من الوحدة المحلية تستهدف المساحات الخضراء المتبقية، وتحويلها إلى مشروعات استثمارية خاصة، ما يزيد من التكدس والازدحام ويحرم المواطنين من المتنفسات الضرورية، ويثير تساؤلات حول دور المحليات فى خدمة المجتمع.
تُعدّ حديقة الزهور (سوزان مبارك سابقًا) بشارع 15 مايو، المجاورة لشون ومقر البنك الزراعى المصرى، مثالًا صارخًا على هذا التوجه. هذه الحديقة كانت تُعرف كمتنفس رئيسى للأسر ومكان للأنشطة الاجتماعية.
فى مرحلة سابقة، تم تأجيرها فى مزاد علنى مقابل 10 آلاف جنيه شهريًا لأحد المنتفعين الذى حوّلها بنجاح إلى قاعة أفراح مغلقة مجهزة على أعلى مستوى، محققًا منها أرباحًا طائلة، ثم أُعيد تأجيرها فى مزاد آخر مقابل 50 ألف جنيه شهريًا، وهو مبلغ زهيد مقارنة بما تجنيه القاعة شهريًا.
المثير للدهشة هو قرار المجلس المحلى بتجريف حديقة أخرى مقابلة لحديقة الزهور (سوزان مبارك سابقًا). هذه الحديقة كانت تُستخدم كنادٍ اجتماعى وترفيهى للأسر فى نجع حمادى، وكانت جاهزة للتطوير والتأهيل وإضافة ألعاب جديدة للأطفال، ولكن بدلاً من استغلالها كمتنفس عام، قام المجلس بإهمالها ثم حوّلها إلى سوق خضار مؤقت. ومن المتوقع أن يتم تأجيرها لاحقًا فى مزاد آخر لأحد المنتفعين الذى قام ببناء أكثر من 50 محلًا تجاريًا فيها، مقابل 51 ألف جنيه شهريًا. هذا المبلغ، وفقًا للمعلومات، يُعتبر زهيدًا جدًا مقارنة بالإيرادات التى يمكن أن تحققها لو تم تطويرها واستغلالها بشكل يخدم أهالى المدينة.
من ناحيته، علق الحقوقى بركات الضمرانى، فى تصريح لـ«الوفد»، على هذه الأوضاع قائلاً: «معاناة نجع حمادى تكمن فى تخلى مسئولى المحليات والتنفيذيين عن دورهم الرقابى والتنفيذى، بعد حصار السكان فى مساحة تضيق عليهم كل يوم مع الزحف الاستثمارى والمعمارى الذى تشهده المدينة اليوم».
وأوضح «الضمرانى» أن «نجع حمادى التى تعد منفذًا للمواطن الصغير ولأسرته للتمتع فيها بأبسط مقومات الحياة، حيث الخضرة والهواء، ومن أبسطها حديقة سوزان مبارك، لم تعد موجودة حاليًا، وذلك بسبب النظرة الاستثمارية. ولهذا السبب، لا تجد المدينة المكتظة مكانًا للتنفس، وبالتالى أصبحت نجع حمادى لا تتسع، بعد أن ضربها الإهمال وانهارت أجزاء كبيرة من مساحاتها الخضراء، ولم يتبق سوى أماكن بسيطة كالأندية الترفيهية بطاقة استيعابية محدودة».
وأضاف أن الأمر يحتاج إلى نظرة من المحافظ، من خلال قيامه بزيارة لتلك الأماكن ليرى بعينه الواقع، ويلمس معاناة أبناء نجع حمادى.

الغربية
«كفر سليمان» بين الحرمان والمعاناة.. أحلام معلقة وخدمات غائبة
تعيش قرية كفر سليمان التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية مأساة يومية وتجاهلاً شبه تام لأبسط الخدمات الأساسية، رغم أن عدد سكانها تجاوز حاجز الـ15 ألف نسمة. يجد أهالى القرية أنفسهم محرومين من الصرف الصحى، مركز الشباب، الوحدة الصحية، وحتى مكتب البريد، ليظل السؤال الحائر يتردد على ألسنتهم: «أين نحن من أبسط حقوق الحياة؟».
الحياة فى كفر سليمان تكاد تكون بلا خدمات أو مقومات للعيش الكريم. فالقرية لا يوجد بها وحدة صحية، ولا صرف صحى حكومي. يضطر الأهالى للتحايل بإنشاء شبكات صرف عشوائية غير مطابقة للمواصفات، ما يهدد منازلهم بالانهيار بسبب تسرب المياه أسفلها. ورغم تخصيص أرض منذ سنوات لإقامة مشروع الصرف، إلا أن الوعود لم تنفذ حتى الآن. يقول مصطفى المصرى، أحد أبناء القرية، إن هذه الحلول الفردية تسببت فى تحول الأرض أسفل المنازل إلى مصدر تهديد دائم لحياة الأسر.
يُضاف إلى ذلك غياب مركز الشباب الذى أصبح مجرد «حبر على ورق»، حيث يضطر القائمون على المركز إلى استئجار غرفة على نفقتهم الخاصة لوضع الأوراق فقط، ولا تقام فيه أى أنشطة. هذا الوضع يدفع الشباب إلى السهر فى المقاهى ويعرضهم لاستقطاب الأفكار المتطرفة، وهو ما أكد عليه المهندس عبدالفتاح نصر متسائلاً: «أين يقضى الشباب وقتهم؟... هل نتركهم فريسة للأفكار المتطرفة بينما تخلت مديرية الشباب عن دورها؟».
يمثل الطريق الرئيسى للقرية (بسيون-طنطا) كابوسًا يوميًا للأهالى بسبب الحوادث المتكررة، التى تنتج عن غياب الرقابة المرورية وافتقار الطريق لأى وسائل أمان أو كاميرات لضبط السرعة. هذا الوضع يهدد حياة الطلاب والأهالى ويجعل كل يوم محفوفًا بالمخاطر.
وتعانى مدرسة كفر سليمان الابتدائية من كثافة الطلاب وعدم كفاية الفصول. ورغم وعود المسئولين بتوسيعها وتحويلها إلى مدرسة تعليم أساسى، إلا أن «التشخيص لم يتحول إلى علاج»، ما يدفع بعض الأسر لإرسال أبنائهم لمدارس بعيدة وتعريضهم لمخاطر الطريق الخطير. أكد إبراهيم الشعراوى، إمام وخطيب المسجد بالقرية، أنه تحدث مع محافظ الغربية السابق للمطالبة بتوسعة المدرسة وتحويلها إلى تعليم أساسى لحماية الأطفال، إلا أن الوعود «ظلت حبرًا على ورق».
الغريب والمحبط أن القرية كانت قد تلقت وعودًا فى مطلع عام 2023 بـإدراجها ضمن المشروع القومى «حياة كريمة»، ما أبهج الأهالى وعلّقوا آمالهم على هذه المبادرة. إلا أن هذه الأحلام تبخرت ولم ينفذ شيء على أرض الواقع، لتظل القرية تعانى من نفس المشكلات.
السؤال الذى يتردد اليوم على كل لسان هو: «هل يشعر المسئولون بألم وأحلام أهالى كفر سليمان؟ متى يصبح لدينا مدرسة تعليم أساسى، مركز شباب حقيقى، وحدة صحية، بريد وصرف صحى آمن؟ أم أن الحياة الكريمة تظل رفاهية بعيدة المنال لهذه القرية المنكوبة؟».

البحيرة
قرية سيدى عقبة بالبحيرة.. خارج الخدمة
فى الوقت الذى تتبنى فيه الدولة مشاريع طموحة لإعادة بناء وتطوير الريف المصرى ضمن مبادرة «حياة كريمة» وقرى «الجمهورية الجديدة»، تبرز قرية سيدى عقبة التابعة لمركز المحمودية بمحافظة البحيرة كنموذج مؤلم للتناقض الصارخ.. فالقرية، التى يفترض أنها تضم مجلسًا محليًا وتخدم أكثر من 23 تابعًا يقطنها حوالى 35 ألف نسمة، تعيش واقعًا مريرًا من الإهمال المتراكم، وبنية تحتية منهارة، وغياب شبه كامل للخدمات الأساسية، ما يدفع سكانها للعيش فى عزلة وظروف حياتية لا تليق بقرية فى قلب الجمهورية الجديدة.
يشكل الطريق الرئيسى المؤدى إلى القرية، والذى يربط سيدى عقبة بالقرى المجاورة، مأساة يومية حقيقية لسكانها وزوارها. ففى الشتاء، يتحول إلى مستنقعات طينية وحفر عميقة، بينما يصبح فى الصيف سحابة من الغبار الخانق. هذا الطريق غير الممهد، المليء بالحفر والمطبات، يشكل خطرًا داهمًا على المارة، وخاصة كبار السن والطلاب والمرضى.
ويقول فهمى جمعة، أحد أهالى القرية، لـ«الوفد»: «نحن نتضرر ونعانى يوميًا من سوء الحالة المتردية للطريق، وذلك على مسمع ومرأى من الجميع منذ فترة طويلة فى ظل غياب أى اهتمام برصفه أو إصلاحه، وهو ما يؤدى لكثير من الحوادث، خاصة لقائدى المركبات، ويتسبب فى تكسير السيارات».
ويضيف عبده الشامى بصوت يائس: «كل يوم بنعانى، سواء كنا راكبين سيارات أو حتى ماشيين على أقدامنا.. الطريق كله حفر ومطبات، والعربيات بتتكسر بسببه.. تعبنا من المطالبات، لكن مفيش حد سامعنا.. إحنا بقالنا سنين بنطالب برصف الطريق، وكل مرة بيوعدونا، لكن مفيش حاجة بتتنفذ. إمتى هنفضل مستنيين؟». كما يعرب أحد السائقين عن معاناته قائلاً: «كل شهر أحتاج لأصلح شيئًا فى السيارة بسبب هذا الطريق. الكاوتش يتقطع، العفشة تبوظ، والمطبات ليست طبيعية. الحل ليس فى إصلاح السيارات، الحل أن الطريق نفسه يصلح».
لا تتوقف معاناة أهالى سيدى عقبة عند سوء الطرق، بل تمتد لتشمل غياب أبسط حقوق الرعاية الصحية. فالقرية، التى يزيد عدد سكانها عن 35 ألف نسمة، لا يوجد بها وحدة صحية رغم وجود قطعة أرض متبرع بها ومخصصة لذلك منذ سنوات، لكن العمل فيها لم يبدأ بعد. يضطر الأهالى إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى مركز المحمودية أو القرى المجاورة للحصول على الرعاية الطبية، ما يزيد من معاناتهم، خاصة كبار السن والمرضى.
أما فيما يخص الخدمات المصرفية، فعلى الرغم من وجود ماكينة صراف آلى (ATM) تابعة للبنك الزراعى، إلا أنها لا تعمل بشكل ثابت، ما يجعلها عديمة الفائدة فى معظم الأوقات. وفى ظل عدم وجود أى ماكينة صراف آلى تابعة لبنك مصر أو أى بنك آخر، يضطر الموظفون والمعلمون وأصحاب المعاشات إلى السفر كيلومترات إلى مدينة المحمودية أو القرى المجاورة لصرف رواتبهم ومعاشاتهم، وسط عناء الانتقال وتكاليفه الباهظة. ويعانى الأهالى أيضاً من عدم وجود مكتب بريد داخل القرية، ما يضاعف من معاناتهم للحصول على الخدمات البريدية، وخاصة كبار السن.
بعد أن زارت جريدة «الوفد» أهالى قرية سيدى عقبة بمركز رشيد، واستمع لمطالبهم، قدم الأهالى الكثير من الشكاوى إلى الجهات المحلية فى محافظة البحيرة، وتلقوا وعودًا بدراسة المشكلة، لكن شيئًا لم يتغير.
وفى ضوء هذه المعاناة، ناشد أهالى قرية سيدى عقبة فى محافظة البحيرة، اللواء هشام آمنة، محافظ البحيرة، التدخل العاجل لرصف الطريق الرئيسى المؤدى إلى القرية، وتوفير محطة صحية لخدمة سكانها وتوابعها، بالإضافة إلى تركيب ماكينة صراف آلى (ATM) تابعة لبنك مصر، لتخفيف معاناتهم اليومية فى الحصول على الخدمات الأساسية، وتسهيل حصول الأهالى على رواتبهم ومعاشاتهم دون عناء التنقل إلى القرى والمراكز المجاورة.
