بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

أكرم.. طفل دهسته الحياة قبل أن يدهسه القطار

بوابة الوفد الإلكترونية

في قرية صغيرة تُدعى مشتول القاضي، التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، كان هناك الطفل «أكرم» لم يكن كغيره من الأطفال، لم يلعب كثيرًا ولم يعرف طعم الرفاهية، بل كبر قبل أوانه، ونضجت في عينيه نظرات الرجال قبل أن تشتد قدماه على الأرض، فقد والده في سن مبكرة، فوجد نفسه تلقائيًا أكبر من عمره، مطلوب منه أن يتحمل أكثر مما تحتمله سنواته الاثنتا عشرة.

أكرم، الطالب بالصف السادس الابتدائي، لم يكن يحمل سوى حلم صغير وهو أن يكون عونًا لأسرته، يدًا حانية على أخيه الأصغر، وسندًا لجدته المسنة التي تحتضنهما بعد رحيل الأب، كان يقضي أيام إجازته متنقلاً بين عربات القطارات، يبيع الحلوى للمسافرين بابتسامة بريئة تخفي ألمًا دفينًا، وكرامة لا تعرف التوسل ولا الشكوى.

في صباح مشؤوم، وبينما كان أكرم يخطو خطوته المعتادة بين عربات أحد القطارات المتجهة من الزقازيق إلى ميت غمر، اختلت قدمه في لحظة عابرة، لحظة لم تتجاوز ثانية، لكنها كانت كفيلة بأن تُنهي حياةً بأكملها، سقط الطفل الصغير أسفل عجلات القطار في منطقة الزنكلون، ولم تنقذه صرخات الركاب ولا توسلات من شاهده، فالقدر كان أسرع من الجميع، والرحيل جاء دون وداع.

بكت قرية مشتول القاضي ابنها الصغير كما لم تبكِ أحدًا من قبل، وشيّع الأهالي جنازة أكرم بدموع لا تُرى إلا حين تنكسر القلوب، الطفل أكرم لم يكن مجرد طفل آخر قضى في حادث، بل كان رمزًا لطفولة مسحوقة، لصوت بريء ضاع في زحام الفقر والإهمال.

جدته، العجوز التي كانت تنتظره كل مساء وهو يعود من رحلته اليومية ببعض الجنيهات وكيس فارغ من الحلوى، لم تصدق أنه لن يعود مرة أخرى، جلست عند باب البيت، تحدّق في الفراغ، وتهمس باسمه وكأنها ترجوه ألا يتركها وحيدة، أخوه الأصغر، الذي اعتاد النوم إلى جواره، ما زال يسأل "هو أكرم راح فين؟".

 لم يكن أكرم ضحية حادث قطار فحسب، بل كان ضحية فقرٍ طاحن سلبه حق الطفولة، وضحية يد لم تمتد من أسرته أو مجتمعه لتنتشله من براثن الحاجة، رحل أكرم لأن الدعم تأخّر، ولأن قسوة العيش كانت أشد فتكًا من الموت نفسه، ومع كل قطار يعبر محطة الزنكلون، يتردد في الأذهان اسم طفلٍ رحل وهو يحاول أن يكون رجلًا صغيرًا، قبل أن تمنحه الحياة فرصة أن يكون طفلًا كما ينبغي.

أكرم ليس الحالة الأولى، لكنه أصبح رمزًا، رمزًا لكل طفل خرج إلى الشارع مضطرًا، لا مختارًا، سعيًا وراء لقمة عيش تُبقي أسرته على قيد الحياة، ورغم أن الموت أسكته، إلا أن صوته ما زال يصرخ في وجه المجتمع: "أين كنتم؟!"

إننا اليوم لا نرثي أكرم فقط، بل نرثي الطفولة الضائعة، والتعليم الغائب، والحماية الاجتماعية التي لا تصل إلا بعد الكارثة، رحل أكرم، لكنه ترك لنا وصية مكتوبة بالدم والدموع: ارحموا فقراءكم، احموا أطفالكم، لا تجعلوا الحلم يُدهَس تحت عجلات قطار لا ينتظر أحدًا.

اللهم ارحم أكرم، واغفر له، واجعل من دمه نورًا يُضيء عتمة الإهمال، علّ الحي يستيقظ قبل أن نموت جميعًا ونحن أحياء.