بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

"خدعة الاستثمار الأجنبي المباشر: قراءة في تجربة مصر بعد ربع قرن من الوعود"

في عام 1999، أعلنت المجموعة الوزارية الاقتصادية في حكومة الدكتور عاطف عبيد أن الاستثمار الأجنبي المباشر سيكون ركيزة أساسية لتحقيق طفرة في التنمية الاقتصادية وخلق فرص عمل واسعة تساهم في الحد من البطالة. جاءت هذه الاستراتيجية مصحوبة بشعارات براقة مثل "تحديث الدولة المصرية" و"الاندماج في الاقتصاد العالمي"، وتم التوقيع على اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية، وسُن قانون الملكية الفكرية، ووقّعت مصر على اتفاقية "التربس"، وكلها خطوات اتُخذت تحت إشراف ورعاية مباشرة من الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) ومنظماتها الاقتصادية. 
تزامناً مع هذه السياسات، تم تسريع تنفيذ برامج الخصخصة وبيع أصول الدولة، والتي رُوّج لها باعتبارها مفتاحاً لجذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق التنمية. وقد هلّلت الدول الغربية لهذه الإجراءات، مبرزة ما سمّته "تحرير الاقتصاد المصري"، و"فتح الأسواق"، و"تحفيز المنافسة". 
لكن بعد أكثر من عقدين على تطبيق تلك السياسات، ماذا تحقق على أرض الواقع؟ 
الوعود لم تتحقق... والصناعة تدفع الثمن 
لم تتحقق الوعود التي أُطلقت بشأن تدفقات استثمارية ضخمة إلى القطاع الصناعي المصري. لم نرَ استثمارات أجنبية تُحدث نقلة نوعية في الصناعات الثقيلة أو التحويلية أو التكنولوجية. فقط قطاع البترول والبتروكيماويات شهد استثمارات أجنبية، ولكن بموجب قوانين خاصة سابقة لا علاقة لها بالسياسات الجديدة، وتعتمد على نظام اقتسام الأرباح وليس الاستثمار طويل الأجل في البنية الصناعية أو التكنولوجية. 
في المقابل، شهدت البلاد توسعاً في استحواذ الأجانب على أصول صناعية قائمة بالفعل، مملوكة للمصريين، تحت مسمى "استثمار أجنبي مباشر"، رغم أنها لا تضيف شيئاً للاقتصاد الوطني سوى نقل ملكية وتحويل أرباح للخارج. لم تترافق هذه الاستحواذات مع تطوير في خطوط الإنتاج أو إدخال تكنولوجيا جديدة، بل اقتصر الهدف على السيطرة على السوق المصري واحتكار قطاعات معينة، وهو ما انعكس سلباً على جودة المنتجات والأسعار. 
البنوك الأجنبية... استنزاف بلا تنمية 
منذ فتح المجال أمام البنوك الأجنبية، كـ"كريدي أجريكول" و"بلوم" و"باركليز"، اكتفت هذه المؤسسات بنشاطات تجارية وربحية مبتعدة تماماً عن تمويل الصناعة أو الإنتاج. وساهمت سياسات البنك المركزي في دعم هذا النهج من خلال منح تلك البنوك هامشاً ربحياً كبيراً بين سعر الفائدة على الإيداع والإقراض. 
في الوقت نفسه، اتجهت البنوك المصرية إلى تمويل الدين الحكومي بشراء أدوات الدين بدلاً من تمويل المشروعات الإنتاجية، ما جعل مدخرات المصريين تُستخدم في زيادة الدين الداخلي بدلاً من تمويل التنمية. 
السوق المفتوح... لصالح من؟ 
أحد أخطر بنود اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كان إلغاء الرسوم الجمركية تدريجياً على الواردات، مما فتح الأسواق المصرية على مصراعيها أمام سلع استهلاكية أجنبية، فارتفعت الواردات بشكل ضخم وازداد معها العجز في الميزان التجاري، في حين عانت المصانع المصرية من منافسة غير عادلة دفعتها للإغلاق. 
الغريب والمؤلم ، أن آلاف المصانع الحديثة التي أُقيمت في المدن الجديدة أغلقت أبوابها خلال العقود الماضيه، دون أي دراسات رسمية من الجهات المعنية لتحليل الأسباب أو تقديم حلول. لم نرَ تحليلاً من وزارة الصناعة، أو هيئة الاستثمار، أو حتى من اتحاد الصناعات وجمعيات المستثمرين. وكأن مصير هذه المصانع وآلاف العاملين بها لا يعني أحداً. 
استثمار أم استحواذ؟ 
في ظل هذا الواقع، لا يمكننا الاستمرار في خداع أنفسنا بتصوير شراء الأجانب لأصول قائمة ومربحة بأنه "استثمار أجنبي مباشر". إن الاستثمار الحقيقي هو ما يُبنى من الصفر، ويضيف قيمة، ويوظف عمالة، وينقل تكنولوجيا، ويخدم خطة وطنية للتنمية. 
لكن ما رأيناه هو بيع للأرباح والسوق، لا استثمار في المستقبل. 
التحرر الاقتصادي الحقيقي يبدأ من الداخل 
لقد آن الأوان لإعادة تقييم التجربة. التحرر الاقتصادي الحقيقي لا يعني فتح الأسواق بلا ضوابط، ولا الخضوع للوصفات الجاهزة للمؤسسات الدولية، بل يعني امتلاك قرار اقتصادي وطني مستقل، يضع التنمية الصناعية والإنتاجية في قلب أولوياته، ويعتمد على الاستثمار المحلي أولاً، ويشجع المصنع الوطني . 
إن ما حدث كان خدعة كبرى دفع ثمنها الاقتصاد المصري والمواطن البسيط، ولا بد من مراجعة جادة وشجاعة تعيد الاعتبار للتنمية الحقيقيه