باركر يلامس الشمس.. ناسا تنشر أول لقطات من قلب الهالة الشمسية

في إنجاز علمي غير مسبوق، سجل مسبار "باركر" الشمسي التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" أقرب نقطة وصل إليها جسم من صنع الإنسان تجاه الشمس، خلال مهمته التي شهدت ذروتها في 25 ديسمبر 2024.
كشفت الوكالة مؤخرًا عن لقطات مذهلة التقطها جهاز التصوير واسع المجال على متن المسبار (WISPR)، توثق مرور المسبار عبر الهالة الشمسية — الغلاف الجوي الخارجي للشمس — على مسافة تقارب 3.8 مليون ميل (نحو 6.1 مليون كيلومتر) من السطح الشمسي.
وتظهر الصور التي تم تجميعها على هيئة مقطع زمني متسلسل كيف تتصرف الرياح الشمسية في لحظات انطلاقها المبكرة، وتوفر مشاهد غير مسبوقة للظواهر الشمسية التي ظل العلماء يدرسونها لسنوات عبر النماذج والمحاكاة فقط.
وعلّقت نيكي فوكس، المديرة المساعدة في إدارة البعثات العلمية بمقر ناسا، قائلة: "نشهد الآن بأعيننا أين تبدأ تهديدات الطقس الفضائي للأرض، ولم نعد نعتمد فقط على النماذج النظرية".
المهمة التي تقودها ناسا تهدف إلى دراسة بيئة الشمس القريبة وتأثيرها على النظام الشمسي، وخاصةً الرياح الشمسية والانبعاثات الكتلية الإكليلية (CMEs)، وهي انفجارات ضخمة من الجسيمات المشحونة التي يمكن أن تؤثر على الاتصالات والأقمار الصناعية وشبكات الطاقة الكهربائية على الأرض.
ويُعتبر هذا الاقتراب في ديسمبر أحد أهم التحليقات التي أنجزها المسبار منذ إطلاقه في عام 2018، حيث باتت المسافة بينه وبين الشمس قصيرة للغاية لدرجة أن وكالة ناسا شبّهت ذلك قائلة: "لو كانت المسافة بين الأرض والشمس تُقاس بقدم واحد، فإن مسبار باركر الشمسي كان على بُعد نصف بوصة فقط من الشمس".
ولم يكن هذا الاقتراب الاستثنائي الوحيد للمسبار، إذ كرر مهمته مرتين أخريين في مارس ويونيو 2025، حيث حافظ على نفس المسافة القريبة من سطح الشمس. ومن المتوقع أن يُكمل باركر اقترابًا إضافيًا في 15 سبتمبر المقبل، ما يعزز فرص الحصول على مزيد من البيانات حول سلوك الشمس وتفاعلاتها مع الفضاء المحيط.
تكمن أهمية هذا الإنجاز في مساهمته المباشرة في فهم ديناميكيات الرياح الشمسية والانبعاثات الإكليلية بشكل أفضل، خاصة وأن هذه الظواهر مسؤولة عن كثير من الأحداث المؤثرة في "طقس الفضاء"، والتي قد تُحدث اضطرابات هائلة في البنية التحتية الرقمية والاتصالات على الأرض.
يعمل مسبار باركر بأجهزة استشعار متطورة تمكّنه من قياس سرعة الجسيمات المشحونة ودرجات الحرارة وكثافة البلازما، ما يساعد الباحثين في تتبع التغيرات التي تطرأ على الرياح الشمسية مع انتقالها من الشمس إلى الكواكب.
كما يسعى العلماء من خلال هذه المهمة إلى حل أحد أكبر الألغاز في الفيزياء الشمسية: لماذا تكون الهالة الشمسية أكثر حرارة من سطح الشمس نفسه؟ إذ تصل درجة حرارة الهالة إلى ملايين الدرجات المئوية، بينما لا تتجاوز حرارة السطح الشمسي 6 آلاف درجة مئوية.
وتُعد مهمة باركر مثالاً رائدًا على تطور تكنولوجيا الفضاء في العصر الحديث، حيث صُمم المسبار لمواجهة درجات حرارة تصل إلى أكثر من 1300 درجة مئوية، بفضل درع حراري مبتكر من الكربون المركّب، يتيح له البقاء في مثل هذه البيئة القاسية دون أن تتأثر أجهزته الدقيقة.
الصور والبيانات الجديدة التي جمعها المسبار لا توفر فقط لمحة عن سلوك الشمس، بل تفتح أيضًا آفاقًا واسعة للتنبؤ بالظروف الفضائية التي قد تؤثر على حياتنا اليومية في الأرض، وتُعتبر خطوة محورية في تعزيز أنظمة الإنذار المبكر من العواصف الشمسية والاضطرابات الكهرومغناطيسية.
ومن المتوقع أن تستمر مهمة مسبار باركر حتى عام 2025 أو بعدها، مع تنفيذ المزيد من التحليقات القريبة التي ستقربه تدريجيًا إلى مسافة 3.83 مليون ميل من الشمس، وهي أقرب نقطة مستهدفة ضمن خطة المهمة.
بهذا التقدم، يواصل مسبار باركر دوره الرائد في تقديم بيانات مباشرة من الشمس، في خطوة تُعد من أكثر الإنجازات طموحًا في تاريخ استكشاف الفضاء، وترسّخ موقع وكالة ناسا في طليعة الأبحاث الفضائية المتعلقة بالطقس الفضائي وحماية كوكب الأرض.