بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

لم يعد للموت حرمه

هنا مشرحة زينهم.. بيزنس الأحزان

أسعار الغسل تبدأ من ٥ آلاف جنيه.. ومافيا الاستغلال ترفع شعار «ادفع علشان تدفن»
«الوفد» تقتحم العالم الخف لثلاجات الجثث

غياب الرقابة ينعش تجارة تجهيز ونقل الموتي

أسرار صادمة علي لسان العاملين بالمشرحة

 

 

فى مشرحة زينهم.. يُفترض أن يكون الموت نهاية للوجع، لكن الوضع فى مشرحة زينهم تحول إلى مسرح مفتوح لاستثمار الحزن وتجارة الوداع الأخير.

لا شيء هناك يُدار بإنسانية، بل كل شيء يقاس بثمن: نظرة أخيرة، ورقة تقرير، تسليم جثمان. صراخ الأهالى لا يجد صدى، بينما تتحرك بعض الأيادى الخفية فى الظل لتحويل الموتى إلى «زبائن» يدفع ذووهم تحت وقع الصدمة والإهانة. فى زينهم، لم يعد الموت أفظع ما يمكن أن تواجهه، بل ما بعده هو الأكثر قسوة.. حيث يُشترى الستر وتُباع الكرامة.

على مشارف مشرحة زينهم، تتراءى صورة مأساوية لا تصدق، حيث يتحول الموت من حق مقدس إلى تجارة رابحة لا تعرف الرحمة، وتنقلب معاناة الأحياء إلى ساحة استغلال فج، عشرات الأسر المفجعة تجلس على أرصفة الشوارع المحيطة، عيونها معلقة على بوابة حديدية مشددة تمنع الاقتراب، وكأنها حصن يحمى سوقًا سوداء صريحة تديرها عصابات تبتز أموال المواطنين فى أحلك لحظاتهم.

داخل المشرحة، لا يكاد يختلف الوضع كثيرًا، إذ تحولت إلى ميدان فساد منظم، تسير فيه الأمور حسب قوانين المال والابتزاز، أسعار غسل الجثث بدأت من خمسة آلاف جنيه، تختلف حسب جنسية المتوفى، وحسب مكانته الاجتماعية، وبينما يتكالب المقاولون على تقديم هذه الخدمات، يجلس مسئولون فى مكاتبهم العليا متجاهلين معاناة الأهالى الذين يبيعون ممتلكاتهم أو يستلفون ليؤمنوا مصاريف دفن موتاهم.

أما المغسلون الذين ينفذون هذه العمليات، فيواجهون أهوالًا نفسية كبيرة، وسط بيئة عمل قاسية لا تقدر قيمتهم ولا تقدم لهم أى دعم نفسى أو مادى، يتعاملون مع جثث مقطعة أو محروقة، يعيشون رائحة الموت حتى فى وجبات طعامهم، ويحاولون المضى فى عملهم وسط ضغوط هائلة.

هذه الفوضى المروعة تدفع آلاف الأسر المصرية إلى صراع مع الزمن والمال، فى وقت يفترض أن تكون فيه المشرحة مكانًا للرحمة والسكينة، لا محطة للنهب والاستغلال.

الوضع الحالى ليس فقط إخفاقًا إداريًا، بل جريمة إنسانية منظمة ضد الموتى والأحياء على حد سواء، تضع أمام السلطات مسئولية أخلاقية وقانونية عاجلة لوقف هذا العبث وإنقاذ كرامة المصريين فى أحلك لحظاتهم.

فى مشرحة زينهم.. الموتى ينتظرون مصيرهم، والأحياء يُنهشون بالألم والاستغلال

على مشارف منطقة السيدة زينب، وقبل أن تصل إلى بوابة مشرحة زينهم، تستقبلك مشاهد لا تصلح إلا أن تكون مشهدًا من فيلم مأساوى طويل، بطله الصراخ، وموسيقاه التصاعدية هى أنين الأمهات ودموع الآباء.

رائحة الموت تملأ الأجواء، ليس فقط من الجثامين المحفوظة فى الثلاجات، بل من وجوه ذابلة تقف على قارعة الأمل، تنتظر خبرًا يحمل جثة أو ينهى شكًا، عشرات الأسر يفترشون الأرصفة، وعيونهم معلقة فى بوابة المشرحة، تلك البوابة التى تحولت إلى ممر للعذاب، بدلًا من أن تكون طريقًا للوداع الأخير.

فى الداخل، لم تكن الأمور أكثر إنسانية، بينما كنت أدخل المشرحة باحثًا عن جثمان صديق راح ضحية حادث، استوقفنى أحد أفراد الأمن بنظرة حادة، «إنت رايح فين؟» أجبته: «بدور على جثة صديق ليا توفى فى حادث».

فتح دفترًا صغيرًا، تصفحه ببطء، ثم قال ببرود: «ماجليش غير حوادث بسيطة متفرقة من على الطرق»، كلماته لم تطفئ نار القلق، ولم تهدئ ازدحام المشاعر فى الخارج، حيث يتجمع الأهالى فى دوائر مكتومة الألم، ينتظرون لحظة النطق بالأسماء المتواجدة داخل ثلاجات الموتى... لحظة التأكد من الموت.

حواجز حديدية ضخمة تحيط بالمشرحة، أشبه بأسوار السجون شديدة الحراسة، ممنوع الاقتراب، ممنوع التصوير، ممنوع حتى طرح الأسئلة، أو معرفة التشديدات على عدم الدخول، وكأن من ماتوا ليس لهم حق فى الاحترام، ومن ينتظرونهم لا يستحقون شيئًا من الشفافية.

على أول الشارع، تصطف عربات الأجرة فى صمت مريب، منتظرة خروج الجثامين لنقلها أقاربهم إلى المقابر، هذا المشهد الصامت لا يخلو من وحشية، فوسط هذه الكارثة الإنسانية، يتحرك تجار الأزمات كذئاب لا ترحم.

أحد سائقى الميكروباصات اقترب منى، لم يتحدث عن الحزن أو الفقد، بل عرض علىّ نقل الأهالى من المشرحة إلى مقابر المنوفية، ذهابًا وعودة، مقابل 3500 جنيه، عندما استنكرت الرقم، قالها بابتسامة خبيثة، «الدنيا حرب، واللى مش هيدفع مش هيلحق يوصل فقيده».

قارنت السعر بما قاله لى سائق آخر من خارج المنطقة، «التوصيلة دى كلها ما تتعداش 700 جنيه»، فكان الفرق صادمًا... لكنه يعكس الحقيقة القاسية، استغلال بلا رادع، وسلطة بلا رقابة، وكارثة إنسانية بلا ضمير.

هكذا تحولت مشرحة زينهم من مكان يفترض فيه الهدوء والرحمة، إلى سوق سوداء للموتى، بين غياب التنظيم، وفوضى الإدارة، وتغول المرتزقة، لم تعد الكارثة فى الحوادث التى تملأ الشوارع، بل فى الطريقة التى تُدار بها تبعات هذه الحوادث، حين يهان الموتى وتبتز عائلاتهم.

فى زينهم، لم يكن الموت النهاية.. بل كان بداية رحلة طويلة من الذل، لا يعرفها إلا من فقد، أو من ينتظر الفقد.

مشرحة زينهم.. الميت لا يُدفن إلا بعد الدفع مقدمًا.. شهادات عن مافيا علنية تتحكم فى غسل الجثث وتسعر الموتى حسب الجنسية والمهنة

داخل أسوار مشرحة زينهم بالسيدة زينب، لا تبدأ رحلة الموت إلا بتسعيرة، ولا يغسل الميت إلا بفاتورة، فيما يقف الأهالى المنكوبون عاجزين بين استغلال فج وغياب كامل للرقابة، المشهد هناك لا يشبه المشرحة الرسمية التابعة للطب الشرعى، بل يبدو أقرب إلى «سوق سوداء» للموت، تديره مافيا علنية على مرأى ومسمع من الجميع.

محمد حسن عبداللطيف، وكيل وزارة التموين الأسبق، والبالغ من العمر 85 عامًا، خرج عن صمته وصرح بشهادة تفضح ما يجرى خلف الجدران، قال لـ«الوفد» «ابن أخويا اتعرض لأول مرة فى حياته لموقف أغرب من الخيال... دخلنا نغسل الميت، لقينا عصابة ماسكة المكان، بيطلبوا من 5000 لـ8000 جنيه مقابل الغسل، والمصيبة إن السعر بيتغير حسب هوية المتوفى... السودانى غير الأردنى، ورجل الأعمال غير المواطن الفقير، ده كلام مش معقول، كل ميت ليه سعر خاص».

وتابع قائلًا: «أنا كنت حاضر بنفسى... الميت كان مرمى على الأرض، والمكان يفتقر لأدنى مقومات الإنسانية... لا استراحة، لا دورات مياه، ولا حتى مساحة مظللة للجلوس، فى عز الحر، والأهالى يفترشون الأرض وسط الكلاب والمخلفات، وكأننا فى ساحة مهجورة لا مرفق حكومى تابع للطب الشرعي».

المفاجأة الأكبر بحسب شهادة وكيل وزارة التموين، أن مشرحة زينهم تعاقدت رسميًا مع شركة خاصة لتولى مهمة تغسيل الموتى قائلًا «أيوه، فيه تعاقد المشرحة عاملة مناقصة علنية مع شركة خاصة، والحد الأدنى للفقير اللى مش لاقى ياكل، 500 جنيه يعنى اللى معهوش حتى الـ500 جنيه، ميته مايتغسلش، ومايطلعش من المشرحة أصلًا».

وتساءل عبداللطيف، «هل فى حكومة فى العالم بتعمل مناقصة على تغسيل الموتى؟ هل دا شغل دولة ولا شغل تجار كفن؟».

أما عن عربات نقل الموتى، فحدث ولا حرج، فبحسب روايته، «عربيات الموتى واقفة على باب المشرحة، وكل حاجة بتتحسب بالدقيقة، وعلى حسب طلبات الأهالى، وسعر التنقل ممكن يوصل لـ8000 جنيه، دا غير الابتزاز اللى بيحصل من بعض السائقين والوسطاء، واللى بيستغلوا مصيبة الناس».

الصدمة الكبرى، بحسب عبداللطيف، أن رئيس مصلحة الطب الشرعى، الموجود فى نفس المبنى، لا ينزل ولا يمر على المشرحة، «الراجل فوق... جالس فى الدور العلوى، لا شايف حاجة ولا سامع حاجة، لو نزل دقيقتين بس، هيشوف المصايب بعينه»، الوضع كما وصفه بالحرف، «مهازل ومآسٍ».. و«نهب لأموال الموتى علني».

وأكد عبداللطيف، «حتى الكفن بيتحطله تسعيرة حكومية، هل الشريعة الإسلامية قالت كده؟ الناس فى كل مكان تتسابق للحصول على ثواب غسل الميت... إلا فى مشرحة زينهم، بيتم مزايدة علنية على جثة الميت، والمواطنين بيضطروا يبيعوا أغراضهم أو يستلفوا علشان يدفنوا أحبابهم... هل دا يرضى ربنا؟ هل دى دولة قانون؟».

«الوفد» حصل على جواب بخط اليد من وكيل وزارة التموين الأسبق، محمد حسن عبداللطيف، على هذه الشهادة وستنشر كافة التفاصيل تباعًا.. وعلى الجهات الرقابية والنيابة الإدارية التحرك الفورى لفتح تحقيق عاجل فى هذه الوقائع، لكشف من يقف وراء مافيا الموت داخل مشرحة زينهم، فالسكوت لم يعد ممكنًا، والجريمة لم تعد صامتة.

مغسل بمشرحة زينهم يكشف لـ«الوفد»: رائحة الموت تطاردنا حتى فى الطعام

كشف أحد مغسلى الجثث العاملين داخل مشرحة زينهم، رفض ذكر اسمه لعدم حصوله على تصريح رسمى، عن تفاصيل صادمة تتعلق بكيفية التعامل مع الجثث داخل المشرحة، وما وصفه بـ«الظروف القاسية» التى يعيشها العاملون، فى ظل غياب تام للرقابة أو التقدير.

وقال المغسل فى تصريحات خاصة لـ«الوفد»، على مقهى بجوار المشرحة، إن التعامل مع الجثث داخل المشرحة يختلف من حالة لأخرى، مؤكدًا أن الجثث التى تصل نتيجة حوادث سير أو جرائم قتل يتم تجهيزها بطريقة مختلفة عن الجثث «الطبيعية».

وأوضح، «لو القتيل جاى فى حادث، بنطلعله كيس مشمع مخصوص، وبنستخدم كمية أكبر من القطن، عشان نحتوى آثار النزيف والتشريح، أما فى الحالات العادية، زى الوفاة داخل المنزل، فالتجهيز يكون أبسط ومش بيحتاج لكل ده».

وأضاف، «بعض الجثامين بتوصل وهى فى حالة صعبة جدًا، خاصة المصابين فى حوادث قطارات أو طعنات حادة، أدت إلى الوفاء، الجثة بتكون مشوهة أو مقطعة، وده بيخلى عملية الغسل شاقة نفسيًا، أصعب اللحظات لما أغسل شاب اتقطع فى حادث قطار أو خناقة، منظر الجثة بيكسر النفس».

وتابع المغسل، «الجثة بعد تشريحها بتكون متخيطة بالكامل من المنتصف، وده بيخلينا نعمل نوع من التطهير الخارجى فقط، بنغسل الجثة من الخارج، وبنطهرها، ونضع القطن فى مواضع معينة، ثم نلفها داخل كيس مشمع، وبعد كده يتم تكفينها».

وأشار إلى أن الجثث المحروقة تخضع لإجراءات مختلفة، مضيفًا، «الجثة المحروقة بيترش عليها مية مورد، ونحاول نديها ريحة مقبولة، ثم نضع عليها قطن ونكفنها بسرعة قبل ما أهل المتوفى يشوفوا التفاصيل الصعبة».

وعن الأثر النفسى الناتج عن طبيعة العمل، قال المغسل، «أنا شخصيًا بقيت آكل أكل حار جدًا علشان أبعد عن الطعم والريحة... ساعات باكل ولسه حاسس بريحة الغسل فى إيدى، بنشتغل تحت ضغط كبير، ورائحة الموت بتفضل لازقة فينا حتى بعد ما نرجع البيت».

كما أكد المصدر أن العاملين داخل المشرحة لا يحصلون على أى دعم نفسى أو مخصصات استثنائية، رغم تعاملهم اليومى مع أوضاع إنسانية شديدة القسوة، وعلق على ما يتردد بشأن وجود تسعيرة لعملية الغسل، قائلًا: «كل الناس عارفة إن فى شركة متعاقدة مع المشرحة، وفى أسعار ثابتة، وكل ميت له تسعيرة، حسب نوع الحالة ومكان الوفاة... ودى تعليمات مش من عندنا، وإحنا بس بنّفذ التعليمات»، مؤكدًا أن أغلب العاملين داخل المشرحة يشعرون بالضغط النفسى والإرهاق، وأن كثيرين منهم يرفضون حتى الحديث عن تفاصيل عملهم خارج أسوار المكان.