ونس الدكة
موت تسعة عشر حلمًا
لاحزن يذكر ولا ألمًا يضاف، بل اعتياد يومى على الوجع المنتشر بين الضلوع، المرابض بقسوة فى القلب لا يريد ان يتزعزع.
هكذا كتبت فى دفتر يومياتى الحزينة بتاريخ الخميس 26 يونيو 2025، اسجل ثقل الهواء من حولى الذى يجعلنى أتنفس بصعوبة وأنا قابعة امام شاشة التلفاز اتابع الحرب الايرانية الاسرائيلية، واقتراب العالم من حافة الجنون النووى، وتأثير قرارات المجنون الأمريكى والبلطجى الأسرائيلى على قطاع غزة المثخن بالطعنات ولازال صامد يقاوم.
صباح الجمعة بتاريخ 27 يونيو 2025 لم يكتف العالم بهذا السيرك الدموى، بل يأتى الموت من قارعة الطريق، على شكل حادث تصادم بين سيارة نقل ثقيل وحافلة صغيرة (ميكروباص) كانت تقل تسعة عشر حلمًا ورديًا لفتيات فى عمر الزهور تتراوح بين 22 و14 سنة، ذاهبات مع طلوع الشمس من قريتهن كفر السنابسة التابعة لمحافظة المنوفية، إلى مكان عملهن لقطف محصول العنب فى دلتا النيل على بعد 100 كيلومتر شمال القاهرة.
أحلامهن بسيطة لاتتجاوز الستر والتعليم والعيش برضا فى ظل الأهل والأحباب.. كتبت فى دفتر اليوميات ليل الحادثة بالحبر الأسود : لو كان الطريق رجلًا لقتلته.. فكم سرق أعمارًا وأحلامًا وأحبابًا دون وجة حق.
صباح السبت 28 يونيو 2025 كتبت فى اليوميات حكمة اليوم : « تعددت الأحلام والموت واحد «، ثم تذكرت صديقى الراحل الدكتور أحمد عتمان رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية الأسبق بكلية الآداب جامعة القاهرة، ورئيس الجمعية المصرية للدراسات اليونانية والرومانية، وأستاذ الأدب المقارن ورئيس الجمعية المصرية للأدب المقارن، وعضو شرف فى جامعة البرناسوس الأدبية اليونانية، وسؤال يطاردنى : ماذا كان يفكر وهو يعدو الطريق الغادر خارجًا من مبنى الهيئة العامة للكتاب فتصدمه سيارة مسرعة ليتوفى فى الحال عام 2013، هل كان يحلم بدراسة جديدة، أم يعمل على كشف أثرى هام يضيف للبشرية مفاتيح جديدة لفهمها.
ولمن لايعرف يعد الدكتور أحمد عتمان رائدا للكلاسيكيات فى العالم العربى بلا منازع، فقد تم اختياره سفيرا للحضارة الهيلنية «اليونانية»، ضمن 6 من كبار العلماء والمفكرين عبر العالم من كل من أمريكا وباراجوى والصين وأسبانيا وإنجلترا ومصر، كما أثرى المكتبة العربية بترجمة روائع الأعمال.
وساهم الدكتور أحمد عتمان فى ترجمة العديد من الأعمال القيمة وإضافتها للمكتبة العربية، كما ساهم فى ترجمة معانى القرآن الكريم إلى اللغة اليونانية فى أثينا عام 1987، ونقل العديد من أعمال الأدب العربى إلى اللغة اليونانية كرواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ.
كما كان له العديد من الأبحاث المتميزة والمؤلفات التى أعادت النظر فى الكثير من مفاهيم الأدب وعلاقته بالتاريخ والمؤرخين، مثل كتابه «الأدب اللاتينى ودوره الحضاري»، ودراسته الشهيرة حول شخصية كيلوباترا من خلال فن بلوتارخوس وشكسبير وأحمد شوقى.
وحصل الدكتور أحمد عتمان على العديد من الجوائز، منها جائزة الدولة التشجيعية فى الترجمة عام 1973 عن ترجمة ملحمة الانياذة لفرجيليوس إلى العربية عن اللغة اللاتينية، وجائزة كفافيس الدولية عام 1991 عن ترجمة «بداية ونهاية» عن العربية إلى اليونانية الحديثة، ودرع المجلس الأعلى للثقافة عن ترجمة الإلياذة لهوميروس2004، وجائزة نجيب محفوظ فى الابداع الأدبى 2005، وجائزة جامعة القاهرة للتميز فى الإنسانيات 2010.
صباح الأحد 29 يونيو 2025 كتبت جملة مكررة فى عشرة أسطر متتالية : الطريق مجرم فى كل زمان ومكان.
ففى عام 1903، رفض العالم الفرنسى « بيار كورى « الذى كان يعمل بالتدريس فى مدرسة الفيزياء والكيمياء التابعة للمدرسة العليا للفيزياء والكيمياء الصناعية بمدينة باريس، تسلم جائزة نوبل للفيزياء، احتجاجا على عدم ترشيح زوجته « مارى كورى « لإسهامها فى الأبحاث حول المواد المشعة، ليقرر مجلس الجائزة ترشيحها، وتصبح أول امرأة تحصل على جائزة نوبل، واستعمل الزوجان أموال الجائزة لدعم أبحاثهما الجديدة.
توصل كورى وأحد طلابه، ألبرت لابورد، إلى أول اكتشاف للطاقة النووية، من خلال تحديد الانبعاث المستمر للحرارة الناتجة عن جزيئات الراديوم. حقق كورى أيضًا فى الانبعاثات الإشعاعية للمواد المشعة، ومن خلال استخدام المجالات المغناطيسية تمكن من إثبات أن بعض الانبعاثات كانت مشحونة بشكل إيجابى، وبعضها كان سلبيًا، وبعضها محايد. تتوافق هذه مع إشعاع ألفا وبيتا وغاما.
توفى العالم الفيزيائى بيير كورى فى حادث دهس بالعربة فى باريس فى 19 أبريل 1906. كان بيير كورى يسير فى أحد شوارع باريس عندما صدمته عربة تجرها الخيول. توفى على الفور متأثرًا بجراحه. كان بيير كورى قد انتخب لعضوية أكاديمية العلوم عام 1905، قبل عام واحد من وفاته المأساوية..
صباح الأثنين 30 يونيو تركت الصفحة بيضاء كالكفن فلا حزن يذكر ولا ألم يضاف.