خطيب المسجد الحرام: المراجعة الصادقة للنفس طريق العُقلاء نحو الفلاح

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام، فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، المسلمين بتقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، مشددًا على أن التقوى هي أصل كل خير وباب كل فلاح، وسبيل إلى النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
وقفة الوداع.. دعوة للتأمل لا للتساهل
وخلال خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم من رحاب المسجد الحرام بمكة المكرمة، استهل الشيخ أسامة بن عبدالله حديثه بتوصيف لحظة وداع العام الهجري بأنها لحظة مثيرة للأشجان ومهيّجة للأحزان، حيث تصاحبها مشاعر الرحيل والانقضاء، قائلًا: "لقد مضى عام كامل، تقلبت فيه الأحوال، وفنيت الأعمار، ومرت فيه الأمة بتقلبات ونوازل كثيرة".
وأكد أن أهل الغفلة يرون في مرور الأيام مجرد انتقال زمني لا أكثر، أما أولو الأبصار فيرونه مصدرًا دائمًا للعبرة، ودافعًا للتأمل والتقويم. واستشهد بقول الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك"، وقول بعض السلف: "من كانت الليالي مطاياه، سارتا به وإن لم يسر".
محاسبة النفس.. خلق العقلاء ومسلك الراشدين
وأوضح فضيلة الإمام أن المراجعة الصادقة للذات، ومحاسبة النفس عند انقضاء الأعوام، هي خُلقٌ لا يسلكه إلا العقلاء والراشدون، مشبهًا إياها بسلوك التاجر الحاذق الذي يحاسب نفسه على الأرباح والخسائر.
وأضاف أن المسلم العاقل يسعى لاكتساب كنوز الأعمال الصالحة، التي لا تنفد أرباحها ولا تبور تجارتها، مستشهدًا بقول الله تعالى:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46].
الغفلة عن المحاسبة.. طريق إلى الخسارة
وفي المقابل، أشار الشيخ إلى حال الغافلين الذين لا يحاسبون أنفسهم، ولا يراجعون أخطاءهم أو يستفيدون من العِبَر، فيمضون في طريقهم بلا بوصلة أو وعي، موضحًا أن هؤلاء ممن قال الله عنهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]، فهم غارقون في لهو الحياة وزخرفها، متناسين الغاية الكبرى من وجودهم.
نهج المراجعة.. طريق التغيير والإصلاح
وأكد الشيخ خياط أن ارتباط محاسبة النفس بالإصلاح والتغيير الإيجابي ارتباط وثيق، فهي تكشف للعبد مواطن الضعف والقصور، وتعينه على تصحيح المسار. فإذا صدقت النية وعزم العبد على الإصلاح، جاءه توفيق الله ومدده.
ولفت إلى أن هذا النهج لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يجب أن تسير عليه الأمة بأسرها، خصوصًا في مثل هذه المحطات المفصلية، التي يُودَّع فيها عامٌ ويُستقبَل آخر، حيث تتعاظم أهمية المراجعة والتقييم للأحوال والسياسات والمواقف.
دليل العقل وكماله
واختتم إمام وخطيب المسجد الحرام خطبته بالتأكيد على أن محاسبة النفس أوضح دليل على كمال عقل المرء، ودليل وعيه وحرصه على النجاح والسعادة، قائلًا:"هي وقفة لا بد منها لكل عاقل في نهاية كل مرحلة من حياته، ليقوّم اعوجاجه، ويشكر نعم الله عليه، ويخطط لما هو قادم بصدق وتجرد ووعي".
ونصح المسلمين بالمداومة على مراقبة النفس، وتكرار المحاسبة مع بداية كل خطوة، حتى تُثمر تلك المجاهدة فوزًا في الدنيا، ونجاة في الآخرة، واختتم بدعوة المؤمنين إلى اغتنام ما بقي من أعمارهم، وتصحيح ما مضى من أخطائهم، والعمل بما يُرضي الله رب العالمين.